المثقفون ومستقبل الثقافة

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

خاطبت وزير الثقافة الأسبق «فاروق حسنى»، قبل ثورة يناير، أطالبه مخلصاً بأن يصدر قراراً وزارياً بتحطيم تمثال «نجيب محفوظ» المقام فى ميدان «سفنكس»، ليس استجابة لممارسة متطرفى «طالبان» أو لفتوى شيوخ التطرف السابقة بتحريم فن النحت أو تماشياً مع تخلف الدعوة إلى تكفير الرجل، ولكن استنكاراً لسوء التجسيد الفنى وافتقاره إلى أبجديات العمل النحتى.. وأصوله ونسبه.. فالتمثال يبرز «نجيب محفوظ» كضرير يرتدى نظارة تخفى عينيه التى كانت تعبر بجلاء ونفاذ عن عمق فكره وعظمة رؤيته للواقع المصرى.. والتمثال أيضاً يبرزه ممسكاً بعصا وكأنه أعمى يتحسس بها طريقه ويخلو من الجمال الفنى فى القدرة على التعبير عن شخصية الكاتب الكبير، ويعكس ضعف موهبة المثّال وفقر إحساسه الفنى وجهله الفادح بقيمة وقدر ومكانة الكاتب الكبير الذى بدا وكأنه كاريكاتير سيئ لرسام مبتدئ.. فأصبح كأنه شاهد على الإساءة ليس فقط للعظيم «نجيب محفوظ» ولكن لفن النحت ذاته.. مثله فى ذلك مثل تمثال د. طه حسين برأسه الصغير كبيضة وردائه الغريب وقدميه الحافيتين.. وتمثال أحمد شوقى، الذى يجلس منحنياً فى وضع غريب وكأنه يقضى حاجته..

ويبدو أن هذه التماثيل قد قام بنحتها مثّال واحد؛ فهى تتشابه فى فقر ثقافة النحات وسطحية تناوله.. وهو ما يدعو إلى التساؤل: هل عقمت «مصر» من مثّاليها الكبار حتى يعبث الصغار برموز ثقافتنا المعاصرة؟!

لم يستجب وزير الثقافة الأسبق مُصراً على مقولته التى كان يرددها دائماً وهى: من أين آتى بـ«مختار» جديد؟!

ثم كررت مخاطبتى تلك للدكتور «صابر عرب» دون جدوى.. بل إنه ترك تمثال «طه حسين» فى مسقط رأسه بالمنيا يحطمه التكفيريون دون أن يحرك ساكناً اللهم أنه وعد بسرعة نحت تمثال آخر بديلاً له يوضع فى نفس المكان.. لكنه ما لبث أن تراجع عما وعد به أو مسايرة لدعوة «المصالحة».. ولا بأس عندئذ من اعتبار الرائد كافراً زنديقاً متأثراً بالحضارة الغربية الكافرة.. فظل التمثال قائماً بلا رأس شاهداً على خيبة تخاذل، وهوان همة وعجز إرادة تسير فى ركب «جوقة العميان» -كما نعتهم «نزار قبانى»- الذين كفروا نور البصيرة لأحد رواد التنوير العظام فى عصرنا الحديث.. حتى تم بمبادرة شعبية وتحمس بعض الشباب مؤخراً فرمموا وأصلحوا التمثال.

وحينما تنفسنا الصعداء بعد قيام ثورة (30 يونيو) التى أشعلها المثقفون بدورهم الإيجابى -ربما لأول مرة فى تاريخ «مصر» الحديث بداية من الاعتصام رفضاً للوزير الإخوانى.. وحتى القضاء على حكم الإخوان حيث لم يعد المثقفون يجلسون على مقاهى المساجلات الفكرية والتطاحن الجدلى.. ولم يعِش المفكر على مقهى «ريش»- والعهدة على «أحمد فؤاد نجم» (محفلط مزفلط.. قليل الفعل.. كثير الكلام يطلق الأحكام ويلعن الزمن الكئيب وينعى خواء العالم.. ومأزق الوجود والعدم وأزمة الضمير الإنسانى.. ويتنابذ بالألفاظ ويعانى من البارانويا وتورم الذات والوساوس القهرية).. لكنه انتفض معبأ ببارود الغضب.. متعمداً فى مياه الجسارة.. واندفع يقتحم وزارة الثقافة قبل «30 يونيو» بأسابيع مرتدياً قفاز الرفض والاحتقار لثقافة الهكسوس وجهالة أهل عهود ظلام وتصحر ودعاة تكفير وكآبة.

أغلق المثقفون وزارة الثقافة بالجنازير فى وجه القبح والتخلف والدمامة وأشعلوا مصابيح التنوير والخلق والإبداع.. رقصوا وغنوا وعزفوا للنهر المستباح والوطن الجريح، ودماء الشهيد.. ولأن المشكلة لم تكن مشكلة وزير ثقافة التحريم والتجريم والوصاية والإقصاء والمصادرة وتكفير المبدعين والمفكرين فقد تحول الاعتصام إلى قوة دافعة جبارة ضد نظام حكم فاشى وزمن العصور الوسطى.. حيث ضيقوا علينا الوطن.. وجاءوا يحملون التوكيلات الإلهية لفرض فتاواهم المسمومة وتحريماتهم المفزعة.. واحتكروا كتابة التاريخ.. وتغيير مناهج وعلوم الحضارات ليدونوا أسماءهم فى قوائم المبشَّرين بدخول الجنة.. فبدأو بقتل الكتب وذبح التماثيل.. ليمضوا بنا فى قطارات صدئة إلى «كابول».. لكن المثقفين قادوا كتيبة التمرد والغضب ليساهموا فى إشعال الثورة الجديدة مؤكدين أن الإبداع لا يموت.. وأن ثقافة التنوير لا تحتضر وحرية الرأى والفكر لا يمكن لأعداء العقل سحقها وحركة التاريخ تنحاز للمدنية والحداثة والتجديد والتنوع ولا تنتصر للجهل والجمود والإرهاب والمتاجرة بالدين.

وجاء د. جابر عصفور وزيراً للثقافة فى ظل أول مرة تهتم فيها الحكومة بتلك الوزارة المسكينة فتسعى إلى الرجل المناسب للمرحلة التى رفعت شعار التنوير فى مواجهة الردة الحضارية.. وما إن بدأ يعمل ويخوض معركة شرسة ضد الرجعية والتشدد وفلول الإخوان والسلفيين حتى طُرد بسرعة وحسم دون أن نفهم على وجه الدقة الخطايا التى ارتكبها.. ثم جاء خلفه د. عبدالواحد النبوى الذى اختلفت الآراء حول توجهاته وأثير لغط كثير حول خلفيته الدراسية بالأزهر.

لكن «عبدالواحد» ذهب كما جاء.. ولم يفعل شيئاً.. وتقلد «حلمى النمنم» المنصب فكان أول تصريح له فى معرض حديثه عن انحيازه للوطنية المصرية بكل مكوناتها الفكرية «لا مساومة على مدنية الدولة».. فأوحى لنا بأنه سوف يخوض معركة كبرى ضد عدونا الأكبر وهو الإرهاب المتمسح بالدين، ذلك الفكر الدينى الذى انحرف عن طريق الإسلام السمح.. لذلك فترياقه السليم ودواؤه الأوحد هو الفكر وسلاحه خطاب ثقافى وإبداعى حر لا يخشى تحريم عقول تنتسب إلى ظلام الجاهلية.. كما أن دعم الخطاب الدينى المستنير هو فى النهاية لا ينفصل عن الخطاب الثقافى العام.. بل يمضى معه منطلقاً فى أفق الحرية التى تعيد فتح أبواب الاجتهاد على مصراعيها وبناءً على ذلك فقد تحمسنا واستبشرنا خيراً فالوزير ليس مجرد موظف إدارى برتبة وزير.

.. وتحققت الوعود وفاقت الإنجازات المبهرة توقعاتنا بأكثر مما كنا نتصور وبشكل أكبر وأعم من توقعات أكثر الحالمين حلماً وأكبر المتفائلين تفاؤلاً.. حيث يصبح حلم إقامة تماثيل ميادين تليق برواد نهضتنا العظام كبديل لتلك التماثيل الرديئة مجرد رغبة صغيرة سهلة التحقق بالمقارنة بنهضة ثقافية شاملة على وشك الانطلاق الساطع بين لحظة وأخرى.. وتلألأت شموع التنوير فأظلمت المسارح وأغلقت وتدنت السينما وانحطت قبل أن نشيعها إلى مثواها الأخير وكثرت رغم ذلك -فى مفارقة غريبة- المهرجانات فى محاولة بائسة للإيحاء والتمويه والتغطية على بؤس المحتوى الثقافى وخواء وهزال الحصاد الفنى.

أمّا عروس البحر الأبيض المتوسط فقد شهدت خلال الفترة الماضية تطوراً رائعاً فتم هدم مسارح كبار النجوم وتحويلها إلى عمارات سكنية، منها (مسرح نجيب الريحانى) و(مسرح إسماعيل يس) و(مسرح كوتة) و(مسرح العبد) وأخيراً (مسرح السلام) الذى يعد تحفة معمارية بناه الرئيس جمال عبدالناصر (1954) وشهد فترة مهمة من تاريخ مصر المعاصر.. وهناك نية لبناء فندق خمس نجوم مكانه!!

فأى خيبة أمل مصحوبة باكتئاب «كتاتونى» تنقض علينا لتزيد من أحزاننا وتضاعف من هواننا.. وأى مصير ينتظر الثقافة والمثقفين.. وأى رعب أكثر من هذا سوف يجىء؟!