براجماتية السلطان «أردوغان»

من يتابع السياسة التركية فى أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة لا بد أن يصاب بالحيرة، خصوصاً فيما يتعلق بنمط التحالفات الجديدة لأنقرة.

يبدو أن ثمة تحالفاً ثلاثياً جديداً فى طريقه للبروز بين تركيا وروسيا وإيران، أو على الأقل هكذا ألمح دبلوماسيون أتراك، اعتبروا أن الدول الثلاث «تستطيع من خلال التعاون المشترك أن تسهم فى تحقيق الاستقرار فى المنطقة».

لقد تحسنت علاقات أنقرة بكل من موسكو وطهران بوتيرة متسارعة فى الأسابيع القليلة الماضية، وهو الأمر الذى عزز تقارير أفادت بأن الاستخبارات الروسية والإيرانية أبلغت «أردوغان» بمعلومات ساعدته على إحباط المحاولة الانقلابية.

يبدو أن «أردوغان» المحبط من مواقف الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، يريد أن يتحرك بقوة وعصبية فى الاتجاه المعاكس.

لا يجد «أردوغان» أى غضاضة فى أن يبدل اتجاهاته ويغير ولاءاته ويخلط الأوراق، وليس أدل على ذلك من أن عدوه الأول راهناً؛ أى فتح الله كولن، لم يكن سوى حليفه وعرابه وأحد أهم داعميه على مدى سنوات.

تعطينا العلاقات مع إسرائيل أفضل مثل على براجماتية الرجل المفرطة؛ ففى يناير من عام 2009، دشن رئيس الوزراء التركى (آنذاك) أردوغان ما اعتبره البعض «مكانة سياسية وشعبية فريدة» لمجرد أنه أظهر عداء لفظياً لإسرائيل.

لم يفعل أردوغان الكثير، هو فقط تلاسن مع الرئيس الإسرائيلى شمعون بيريز، وانسحب من لقاء معه وآخرين فى منتدى دافوس، بعدما هاجم «استخدام إسرائيل المفرط للقوة فى عدوانها على غزة»، وقتلها النساء والأطفال، وحصارها الشعب الفلسطينى الأعزل، وقصفها المساجد.

انتشى الجمهور فى العالم العربى آنذاك، وهتف بحياة «أردوغان» مع الجماهير التركية، وعاير زعماءه لأنهم لم يكونوا بقدرة الزعيم التركى، لكن أحداً لم يكن يدرك أن العلاقات التركية - الإسرائيلية فى ذلك الوقت كانت «استراتيجية»، وأنها ستعود كذلك تحت حكم «أردوغان» أيضاً.

كانت تركيا أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل فى عام 1949، ومنذ ذلك التاريخ والدولتان ترتبطان بعلاقات يمكن تصنيفها ببساطة بأنها «استراتيجية نوعية تتمتع بالاستدامة والتجدد والتطوير».

لقد عادت إسرائيل وقصفت سفينة مساعدات تركية موجهة إلى غزة فى صيف عام 2010، وحين حاول «أردوغان» أن يوصل رسالة إليها تشير إلى فداحة ما أقدمت عليه، قال ببساطة «إن إسرائيل على وشك أن تفقد أفضل حليف لها فى المنطقة».

لقد قتلت إسرائيل أتراكاً وأغرقت السفينة «مرمرة»، لكن «أردوغان» قبل التعويضات من الدولة العبرية وأعلن التطبيع معها.

وكما فعل «أردوغان» مع إسرائيل فعل مع روسيا، التى اضطر أن يهز مكانته ويسىء لكبريائه من أجل استعادة العلاقات معها، فأقدم على الاعتذار للرئيس بوتين، فى سبيل إصلاح العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه.

لا يمكن لأى تحليل منصف أن يتجاهل التقدم الكبير الذى أحرزته تركيا على يدى أردوغان، منذ اعتلى سدة السلطة فى عام 2003، رئيساً للوزراء. فقد تسلم الرجل الموقع التنفيذى الأول فى هذا البلد العريق فى وقت تدنت فيه معدلات نموه، وزادت ديونه، وتراجعت مكانته الإقليمية والدولية، فإذا به يأخذه إلى آفاق جديدة من النجاح والازدهار فى أقل من عشرة أعوام.

عندما ترك «أردوغان» رئاسة الحكومة التركية، بسبب اعتبارات قانونية تمنع تمديد فترات رئاسة مجلس الوزراء، كانت بلاده تحتل مكانة كبيرة ومميزة، وتتحول لاعباً أساسياً فى منطقة الشرق الأوسط، وتتعامل مع الاتحاد الأوروبى بندية، وتحتل موقعاً فى قائمة الاقتصادات العشرين الأكبر فى العالم.

تلك قصة نجاح لا ينكرها أحد، لكن بموازاة تلك القصة كان هناك مسلسل من الألاعيب السياسية، والتدخلات فى شئون الآخرين، واللعب بنار الطائفية والإرهاب، والكيل بمكاييل متعددة، وتكريس الاستبداد باسم الديمقراطية.

لقد اتهمت بعض الأطراف الدولية، ومنها روسيا على سبيل المثال، نظام «أردوغان» بدعم منظمات «متطرفة وإرهابية» تقاتل فى سورية، وأصبحت بلاده على مدى خمس سنوات بوابة مفتوحة لمرور المقاتلين الأجانب إلى داخل هذا البلد المنكوب، وفق تقارير دولية عديدة.

ليس هذا فقط، بل إن أردوغان، الذى أظهر تعلقاً كبيراً بالسلطة، لم يشأ أن يبتعد عن المشهد بعد نفاد مدد ولايته المقننة كرئيس للوزراء، فتنافس على منصب الرئيس، ذى الصلاحيات الشرفية، وما لبث أن التف على الدستور، فوسّع نطاق صلاحياته على حساب رئيس وزرائه آنذاك داود أوغلو، الذى اصطدم به لاحقاً، قبل أن يطيحه ويأتى بـ«بن على يلدريم» رئيساً للوزراء.

يريد «أردوغان»، مستفيداً من المحاولة الانقلابية الفاشلة، أن يحافظ على مكانته كرأس السلطة التنفيذية والمتحكم الأوحد فى شئون البلاد، وبالتالى فليس أمامه سوى أن يغير الدستور، ليصبح النظام التركى نظاماً رئاسياً، يسمح له بتكريس «النزعة السلطانية» التى طالما رأى نقاده أنها تحركه.

لكن علاقاته الخارجية والداخلية أخذت فى التدهور بسبب خشونة سياساته، وانفراده بالقرار، واهتمامه الكبير بتكريس «عظمته»، بما يعيد أمجاد الخلافة الإسلامية، التى يريد أن يسترد من خلالها الدور الإمبراطورى المفقود.

فقد اصطدم «أردوغان» بإسرائيل، وأغضب روسيا، وحارب سوريا، وعادى مصر، ووتر علاقات بلاده مع الاتحاد الأوروبى، وضغط على حلفائه الخليجيين.

وبدلاً من أن يجد نفسه فى محيط سماه رئيس الوزراء المبعد داود أوغلو «صفر من المشاكل»، وضع تركيا فى محيط يمكن تسميته بـ«100% مشاكل».

من أكبر مميزات «أردوغان» أنه ذكى وعملى، ورغم أن «كبرياءه السلطانى وفخره القومى وتصوره الدينى» يؤثر تأثيراً كبيراً فى سلوكه، فإنه يمتلك المرونة اللازمة لكى يغير اتجاهه بنسبة 180 درجة لتحقيق المصلحة.

فتلك روسيا التى تعالى عليها بعدما أسقط طائرتها الحربية، رضخ لها واعتذر اعتذاراً مهيناً، لكى يستعيد العلاقات معها، وينشط التجارة والسياحة، ويوقف الدعم العسكرى الروسى المحتمل للأكراد الراغبين فى الانفصال عن دولته.

وتلك إسرائيل، التى أوهم عرباً ومسلمين أنه عدوها الأول، خصوصاً بعد حادث «مرمرة»، راح يخطب ودها، ويوقع الاتفاقيات للتطبيع معها.

أما مصر، التى لا يمل من توجيه الاتهامات إلى نظامها، ويصفه بأنه «ديكتاتورى واستبدادى وانقلابى، وأطاح بإخواننا الذين كانوا يحكمون بطريقة ديمقراطية»، فقد راح رئيس وزرائه «يلدريم» يشير إلى إمكانية التطبيع معها، وتطوير العلاقات الاقتصادية، وعقد لقاءات بين مسئولى البلدين، وحتى التنسيق العسكرى.

من الممكن أن يصالح «أردوغان» المصريين، ومن الممكن أن يصالح نظام بشار، خصوصاً عندما سيقنعه حلفاؤه الجدد الروس والإيرانيون بضرورة أن يبقى الرئيس السورى فى المشهد.

على الذين يتعاملون مع «أردوغان» ألا يهتزوا إن خاصمهم، وألا يفرحوا إن حالفهم.. عليهم فقط أن يوفروا له مكاسب وأثماناً ليبقى فى صفوفهم.

لطالما كان وجود قدر مناسب من البراجماتية، فى أى نظام حكم، شيئاً مفيداً لصيانة مصالح الدولة، لكن مع الإفراط فى البراجماتية تفقد الدولة ذرائعها الأخلاقية، ومبرر احترام العالم لها.