رد الاعتبار إلى صدام حسين

مصطفى بكرى

مصطفى بكرى

كاتب صحفي

أكثر من ثلاثة عشر عاماً مضت، والعراق ينزف دماً، حروب لا تنتهى، ومعارك لا تتوقف، الطائفية تحصد الأرواح، الوطن يقسم، والثروات تنهب، والتاريخ يجرى تزييفه، لم تعد هناك دولة، ولا جيش، الميليشيات تحكم وتتحكم، وفى خضم الأزمة غابت الشعارات الجميلة عن الحرية الموعودة، والعراق نموذجاً للديمقراطية، الذى سيمثل بداية الطريق الذى سيزحف إلى جميع العواصم العربية.

مضت السنوات ثقيلة، أكثر من مليون شهيد، بحور الدماء لا تتوقف، الإرهاب يتفشى، والموت يطارد الأطفال ويخطف مستقبلهم، التعذيب، السجون، إهدار آدمية البشر، أبومصعب الزرقاوى، أبوبكر البغدادى، القاعدة، داعش، فيلق بدر، الحشد الشعبى، الخوف ينتشر فى كل مكان، والعراق ينهار على مرأى ومسمع من «بوش» وعصابته، و«أوباما» وزمرته، وأيضاً الحكام الذين مهدوا للغزو على العراق.

كان المخطط معروفاً، قبيل الحديث عن مبررات الغزو الكاذبة، والتى جاء تقرير لجنة التحقيق البريطانية التى ترأسها «تشيلكوت» ليؤكد أنها كنت مجرد أوهام اصطنعوها، وأن السياسة حيال العراق تقررت على أساس المعلومات الاستخباراتية والتقييمات الخاطئة.

خرج علينا تونى بلير بعد تقرير الأربعاء الماضى والمكون من نحو 2.6 مليون كلمة تنضح بالإدانة، ليقول لنا إنه شعر بالحزن والأسف بشأن حرب العراق، وإنه يتحمل المسئولية الكاملة عن اتخاذ القرار، وقبله كان قد ردد نفس الكلمات جورج بوش «الابن»، ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكى إبان الحرب، وكولن باول وزير الخارجية فى هذا الوقت، جميعهم اعترفوا بخطأ التقديرات الاستخباراتية، حول امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل فى هذا الوقت، سالت دموع التماسيح، ولكن بعد فوات الأوان.

لم يكن هؤلاء وحدهم، لكن الأمر امتد إلى المواطنين الذين وقفوا معهم فى ذات الخندق، وشكلوا طابوراً طويلاً يبرر للغزو ويمهد له، كاظم الجبورى الذى كان أول من حطم تمثال صدام حسين وأسقطه مع بداية الغزو يعلن عن الندم، ويتمنى أن يعود صدام حسين مجدداً وقال: سأكون أول مَن يقف إلى جواره لأنه الأفضل، أما الكاتبة العراقية «سمر الألوسى» التى كانت واحدة من الذين أطلقوا سهامهم وكتاباتهم ضد صدام حسين، فقد راحت تبدى الندم، وتهيل الثرى على مواقفها السابقة وتقول وهى تنتحب على صفحتها بـ«الفيس بوك» الثلاثاء الماضى: «أعتذر منك يا صدام حسين، لأننى رقصت وفرحت يوم سقوطك، لقد نسيت مجانية التعليم، ونسيت التغذية المدرسية، ونسيت الخدمات الصحية المجانية، ونسيت الصناعة العراقية، ونسيت الزراعة، ونسيت قضاءك على الأمية، ونسيت الخطوط السريعة والأسواق المركزية والحصة التموينية، وعدم السماح بالطائفية، وتوزيع الأراضى، وقروض الزواج، وتوزيع السلع المعمرة للمتزوجين وحماية العراق، وإعدام اللصوص والخونة والسارقين، أعتذر منك، لأننى لم أدافع عنك وعن بلدى».

كانت «سمر الألوسى» المعارضة الشرسة لحكم صدام حسين تنطق بكلمات دامية، يطلقها كل العراقيين عدا الخونة منهم، الندم على زمن صدام حسين، زمن العزة والكرامة، وحماية الأرض والعرض، زمن التصدى للمعادين للعروبة، زمن فرسان وحماة البوابة الشرقية للأمة العربية.

منذ ثلاثة عشر عاماً مضت، كانت حرب الأكاذيب فى الإعلام وداخل الأمم المتحدة وفى المنتديات والمؤتمرات لا تتوقف، كانت حرباً رخيصة، استهدفت غزو بلد عربى وتحطيمه ونهب ثروته وتفكيك جيشه وتسليمه للعناصر الإرهابية المتطرفة لتمزق جسده وتقطع أوصاله، حتى لا يعود مرة أخرى، يتصدى ويواجه.

فعلوا أكثر مما فعله «هولاكو» الذى دمر عاصمة «الرشيد» ونشر الموت فى أنحائه، لقد ذبحوا العراق بمنهجية ووحشية لا يحسدون عليها، فتحول الوطن إلى ساحة مستباحة، وغطت الدماء على مياه دجلة والفرات، تشرد العراقيون فى أرجاء المعمورة، يبكون وطناً كان من أجمل الأوطان.

كأننى أسمع صوت «أم كلثوم» تشدو بكلمات الشاعر محمود حسن إسماعيل وتغنى «بغداد يا قلعة الأسود، يا كعبة المجد والخلود، يا جبهة الشمس للوجود، سمعت فى فجرك الوليد توهج النار فى القيود، ويبرق النصر من جديد، يعود فى ساحة الرشيد».

رغم الألم والحزن، رغم الدمار والموت، لكن الأمل يبقى، هكذا علمتنا دروس التاريخ، والحروب التى دمرت بغداد، فعادت قلعة للأسود التى أكدت للعالم أكثر من مرة أنها كعبة المجد والخلود.

أدرك أن المؤامرة هذه المرة كانت كبيرة، وأن المخطط لم يكن اعتباطياً، بل كان البداية التى ستنطلق من هناك إلى كل أنحاء وطننا العربى الكبير، كانت المؤامرة تقول على لسان مدير الاستخبارات الأمريكية السابق «جيمس ويلسى»: «العراق هدف تكتيكى، والسعودية هدف استراتيجى، ومصر هى الجائزة الكبرى»، وها هو المخطط ينطلق ليأخذ فى طريقه العديد من العواصم، وينشر الحرب والموت والدمار.. لينتج فى النهاية شرق أوسط جديداً، خالياً من العروبة والوطنية، والعقيدة والإيمان، أمة يعاد إنتاجها لتقبل بالسيادة الصهيونية الإمبريالية ونعود نحن عبيداً نقدم الثروات ونركع لولاة أمورنا الجدد، ليدفعوا بنا إلى أتون التخلف والسقوط من جديد.

الآن وبعد أن تكشفت الحقائق، التى قلنا بها منذ زمن طويل، الآن هل يعتذر الصحفيون والإعلاميون الذين مهَّدوا للغزو؟ وهل يعتذر من كانوا مجرد أدوات فتحت الطريق وعبَّدته أمام سادة العالم الجديد؟ أم أنهم سيبقون يكابرون ويبررون، أو يطنشون، أظن أنهم لن يمتلكوا شجاعة الاعتراف بالحقيقة.

أما أنت يا شعب العراق، يا مَن تصديت، وضحَّيت كثيراً من أجل الأمة، يا مَن قاتلت وصمدت، وفتحت أبوابك للعرب من كل حدب وصوب، آن لك أن تنتفض، وأن تزيل عنك غبار السنين، وأن تداوى جراحك، وتعود لتبنى مجدك من جديد.

حتماً سيعود العراق ولو بعد سنين، أما أنت يا صدام، فقد عشت رجلاً، ومِت بطلاً، وليخسأ الخاسئون!!