شيء عن عذابات أهل العلم
تخيل أشخاصًا مسجونين في كهف مظلم منذ ولادتهم، مقيدين إلى جدرانه، لا تمكِّنهم قيودهم من الالتفات إلى الوراء، كل ما يرونه هو الكهف أمامهم من الداخل.. ينفذ الضوء لهم من نافذة صغيرة وراءهم يطل منها نور من الشمس المقابلة للكهف.
وبين النور ونافذة الكهف هناك طريق يمر منه أشخاص يحملون أشياء متعددة.. وحينما يمر الضوء بتلك الأشياء تنعكس ظلالًا على جدران الكهف، هؤلاء الناس الْمُقَيَّدُون لا يرون إطلاقًا غير هذه الظلال، ويتوهمون أن هذا هو شكل الحياة خارج الكهف؛ عبارة عن ظلال مختلفة وغريبة.
تصوَّرْ أن أحدهم استطاع أن يتخلص من قيوده، واستطاع الخروج. بالتأكيد سيُصدم من أن الحقائق بالخارج مختلفة تمامًا، وأن ما هو بالكهف مجرد ظل لها.
انتفض من الفرحة، وعاد إلى الناس داخل الكهف ليخبرهم بالحقيقة، وينبههم إلى حالة الخطأ التي هم متورطون بها منذ عشرات السنين.. يتصور أفلاطون أن هؤلاء الناس المقيدين سيتهمونه بالكذب، وربما حاولوا قتله.
يقول المثل السائر: (لا كرامةَ لنبيٍّ في قَوْمِه)
الناس أبناء بيئاتهم.. وأي محاولة لتحطيم أشياء درجوا عليها، هي أشبه بانتهاك حرماتهم، سيدافعون عنها حتى آخر ما يستطيعون، وبحسب قدرتهم على المراوغة وتقبل الجديد.
وطريقة توصيل المعرفة هي الأخطر!
ربما كان جاليليو مخطئًا عندما حاول إيصال حركة الأرض حول الشمس بطريقة تشكك في معتقدات دينية سائدة في ذلك العصر، فكان جزاؤه السجن، ثم السجن، وبعد ذلك مزيد من السجن!.
ذكر المؤرخ ترتليان أن فيلسوفة مصرية وُلدت في الإسكندرية تسمى هايباتيا كانت مُبدِعة في الرياضيات عام 540م، أشعلت نيران الثورة بسبب معاملة الرجل للمرأة، حيث كانت المرأة تعامل معاملة دونية، وتُضرب وتُهان، وناقشت في محافل الإسكندرية مكانة المرأة وعدم مساواتها بالرجل، وقالت إن رجال الدين يفسرون النصوص المقدسة لصالح الرجل. اعترض عليها رجال الدين، وأثاروا الناس ضدها. قام الرعاع بمهاجمتها وقتلها!! هكذا ببساطة!.
كان كوبرنيكوس (1473 - 1543م) أكثر استيعابًا لمجتمعه، وهو نابغة علم الفلك، استنتج كوبرنيكوس أن جميع الأجرام الفضائية والكواكب تتحرك وفق قوانين الطبيعة الثابتة، وأن المذنبات والنيازك أجسام تسقط من الكواكب. وألقى محاضرة عن نظريته الأولى في علم الفلك، بإيجاز، وسماها «ثورة في حركة الأجسام في السماء»، لكن سرعان ما خَطَّأَه رجال الدين، وحذروه من نشرها. أثارت نظريته هزة في الأوساط العلمية في روما والعالم في منتصف القرن السادس عشر. وصارت قاعدة لعلم الفلك الجديد، على الرغم من معارضة رجال الدين وبعض العلماء الكلاسيكيين. لم يجرؤ كوبرنيكوس على طبع آرائه ونظريته العلمية ونشرها إلا بعد أن أحس بموته القريب، لدرجة أنه تسلم النسخة الأولى وهو على فراش الموت في عام 1543.
لكن ظهر عالم جديد اسمه جيرانو برونو، ليكتشف في أبحاثه معطيات جديدة تضاف إلى أبحاث كوبرنيكوس وتؤكد نظرياته. وجعل من نفسه مدشنًا لهذه النظرية في أوروبا، حيث أوضح أن الأرض لا تدور حول نفسها فحسب، بل حول الشمس، وأنها الشمس نجم صغير مقارنة بنجوم أخرى، وقال باحتمال وجود كائنات حية في كواكب أخرى.. يا له من مجنون!
حدث ما هو متوقع، قُبض عليه (1594م)، وسجن ستة أعوام، ثم حوكم بتهمة الهرطقة، حُكم عليه بالموت حرقًا، ورُبِط لسانه، وجُرِّد من ملابسه، وقُيِّدَت يداه ورجلاه بقضيب من حديد!.
ألم يَمُتْ العالم الكبير إسحاق الكندي عالم الفيزياء والموسيقى، وحيدًا مُهمَلًا محبطًا بسبب حرق مكتبته، وإتلافها، على يد المتوكل، لمجرد شائعة بأن أفكاره تتعارض مع الدين، وأنه يعتقد بخلود الكون؟!.
سأقول لك الأكثر من ذلك: في زمن غير بعيد كانت تُعتبر الأوبئة، مثل الطاعون والكوليرا والجدري، إرادة إلهية لا يمكن مواجهتها، ولذلك عندما اكتُشِف التطعيم ضد هذه الأمراض لقي معارضة شديدة من قبل بعض رجال الدين، وكان أن ألقت جماعة قنبلة في منزل الطبيب بولستون، الذي كان مركزه يقوم بتطعيم مرضى الجدري. لأنه يشوِّه جثثًا ستذهب إلى الآخرة بهذا المنظر، على حد تصورهم.
أقول لك الأكثر: كان الاعتقاد السائد لدى البعض أن العالَم بدأ يوم الأحد 23 أكتوبر سنة 4004 قبل الميلاد، ولما تبين أن العالم المتوفى وكليف يقول إن عمر الأرض أكثر بمئات السنين، أخرجوا رفاته وطحنوها ثم نثروها في البحر حتى لا تنجس الأرض.
بعض ما رُفض وقتل أصحابه لأجله، صار الآن مذهب أجيال، وعلمًا يُنقَل إلى طفل في المرحلة الابتدائية، غير أن إصرار المجتمع، ومحاربته كل ما هو جديد، أودى إلى شيء من التعويق في مسيرة العلم.
إن إيصال الأفكار الجديدة يجب أن يحدث بحذر ومهارة شديدين.. ويجب أن يلقى مجتمعًا منفتحًا متعلمًا مستعدًا لمحاربة الفكرة بالفكرة، وترك الجديد يأخذ فرصته، دون أن يسبق بحكم من واقع الخبرة المهترئة.
ارحموا ألف ابن رشد عُذبوا
ومائة كوبرنيكوس فضلوا الصمت!!
(ماشي)؟!