ونوس

نشوى الحوفى

نشوى الحوفى

كاتب صحفي

كثيراً ما ينتابنى التفكير فى قصة الخلق وعلاقة الإنسان بالله ومعركته الأبدية مع الشيطان. قضية تثير الكثير من التساؤلات والأفكار لمن يدرك معانى الحياة والحساب والموت والخلود، لندرك أنه ومنذ اللحظة الأولى كان هناك إبليس المقرب لله العابد له، الذى يتيه بمكانته لدى الخالق، المدرك لتميزه بمادة خلقه، وما لديه من قدرات. وفى ذات الوقت هو العاصى للخالق الذى منحه الوجود، المتمرد على أمره بالسجود لآدم المخلوق من طين، فتسجد الملائكة كلهم إلا إبليس يأبى ويتكبر، فيكون غضب الله وسؤاله له عما منعه من السجود؟ لتأتى الإجابة بسيطة على لسان إبليس المُغتر بمادة خلقه: «خلقتنى من نار وخلقته من طين». لنقف أمام هذا المشهد لتدرك أن ما من نعمة أنت فيها إلا بإذن الله، فلا تغتر بنفوذ ولا بمكانة ولا منحة منحها الله لك، فمن ملك القدرة على المنح ملك القدرة على الأخذ، فإياك ونفسك مهما كنت.

وتتواصل القصة فى تطور درامى عنيف يغضب فيها الله ممن عصى أمره وقد كان من العابدين، فيطرده من رحمته ويلعنه إلى يوم الدين، ولكن إبليس لا يستسلم ولا يتراجع ولا يتوب أسفاً لله، بل يطلب منه إرجاء العقاب إلى يوم البعث، يطلب تأخير الحساب، يُقرن عصيانه بطلب تأجيل حسابه ليوم البعث ليخوض مع آدم وبنيه معارك تكون الغواية هى سلاحه الوحيد العتى فيها أمام النفس التى لا تملك فى محاربته سوى الإخلاص. ليقسم إبليس أول قسم فى الكون أمام الخالق، نعم... أقسم بعزة الله وجلاله ليغوينا أجمعين، ولكنه استثنى من قسمه وعهده المخلصين منا، عرف أن الإخلاص مبعث قوة لا تكسرها الغواية أو الحقد أو الغل أو الغيرة. أدرك إبليس ما افتقده فى علاقته بالله، فوقع فى المعصية والخطيئة. نعم عبد إبليس الله وسجد له مع الملائكة قبل خلق آدم، ولكنه لم يملك الإخلاص فى العبادة فهوى. وهنا تكمن كلمة السر يا سادة.. الإخلاص هو سر المقاومة وليس أى شىء آخر. أقرنه بكل أفعالك تنج من غواية الشياطين، امنح الحياة حُباً وامنح عملك إخلاصاً تكسر قوة الغواية المحيطة بنا. لا تنخدع بوسوسة تشير لك على شجرة الخُلد المُحرمة عليك، فتترك كل ما حلله الله لك، وهو كثير وتركز فيها كما فعل أبونا أدم. هنا لن تكسب معركتك مع الشيطان وحسب ولكنك ستكسب الرضا الذى يمنحك السعادة والثقة بما تملك والقناعة به. لا عن زهد ولكن عن فهم ذكى لحكم الحياة منذ منحها الله لنا وإلى أن تنتهى أيامنا بها.

لذا استوقفنى مسلسل «ونوس» بين أعمال الشهر الكريم لأتابع نموذجاً من أفعال الشيطان معنا كل يوم وكل لحظة فى الحياة وسبل تزيينه للمعصية وطرق غوايته لنا ببراعة لا تدرك معها فعله ودهاءه. استوقفنى أداء الجميع فى المسلسل كتابةً وتمثيلاً وإخراجاً بلا استثناء. تابعت ونوس ذلك الشيطان المتنكر فى صورة إنسان، وهو يطوف على الجميع يمارس غوايته ملتزماً بقسمه. لم يترك شاباً ولا فتاة أو عابداً أو لاهياً أو شيخاً أو مريضاً فى الحياة، تابع مهامه بدأب وهو يعلم النهاية التى تنتظره، ويؤجل التفكير فيها، لقد انتهى أمره ولا بد أن ينهى أمر من يستطيع من بنى آدم معه. نعم، أبدع ونوس فى ممارسة الغواية وليست كلها تكتسى بالشر كما قد يُخيل للبعض، بل على العكس تماماً تأتى الغواية منطقية ومبررة للشخصيات التى تقع فى فخ ونوس. كل الأسباب قائمة للوقوع فى بئر الغواية، الذى لا يحتاج إلا لسقطة واحدة لتتوالى السقطات. عمل فنى يستحق التوقف والمتابعة لفهم أبعاد علاقة كانت سر شقاء الإنسان منذ بدء الخليقة، وحتى نهاية الكون. عمل يؤكد لك أن ونوس محيط بنا ومحاربته ومقاومة غوايته سر القوة فيها الإخلاص لله فى كل فعل تقوم به وعدم التكبر بأى نعمة يمنحها لك.