«أسامة أنور عكاشة»

عاطف بشاى

عاطف بشاى

كاتب صحفي

كان «أسامة» نهراً من العطاء الفنى الذى لا ينضب.. وفيضاً من موهبة تشرق وتتلألأ لا تخبو ولا تخفت.. ومطراً ينبت أشجاراً وزهوراً من الإبداعات الباقية.. درراً فى أحداق الفنون الراقية.

كان «أسامة» يكتب المسلسل «الإعصار».. والمسلسل «العاصفة».. فينتزع الأشكال من أشكالها.. ويزعزع الأشياء من مكانها.. ويصدم الوعى فى وعيه.. ويهز الأفئدة فى أعماقها.. يغرس سكينه بصدر العصر فيكشف الزيف ويعرى الوجوه من أقنعتها الشمعية.. وعيونها الزجاجية.. فهو يتعمد بماء الجرأة والجسارة فيحرق جسور الدعة والطمأنينة لدى المتلقى ويلقى به فى أتون خطر المعرفة ودهشة الأسئلة.. يقفز فوق الأسلاك الشائكة ويخترق كل الخطوط الحمراء.. فهو لا يجيد التنكر ولا يعرف المساحيق المضللة.. ويخاصم القبح.. وليس ينوى حذف كلمة واحدة كتبها إن جاء يوم الحشر.. وليس ينوى حين يأتى النزال أن يغمد حسامه أو يستجيب لمهادنة أو يميل إلى ترضية.. فهو يدرك كيف يكون الموت فى الكتابة.. ومن ثم كيف يكون الموت فى الدفاع عن الكتابة.

منذ سنوات قليلة كان يملأ الدنيا من حولنا.. فأنت تجده منذ أن تفتح عينيك فى الصباح يطالعك بعينيه الثاقبتين المتحفزتين وملامحه الجادة التى تشى بود لا تخفيه صرامة ظاهرة.. يدعوك فوراً إلى مشاركته معركة سياسية من خلال مقال متوهج صادم.. وما أن تنتهى من القراءة حتى تكتشف أنه قد ضحك عليك فدعوته لمشاركتك لم يكن الهدف منها إثارة جدل حول قناعاته بل تحريضك على الموافقة والاستسلام لمنطقه.. فإذا ما طويت الجريدة التى يطالعك من خلالها وأمسكت بأخرى يبرز لك بمقال يثير قضية فكرية مهمة ينجح فى أن يجعلها تستولى على كل اهتمامك.. بل تدفعك بطريقة طرحه الفريد لها إلى أن تسيطر عليك مشاعر الدهشة.. فتتساءل بينك وبين نفسك لمَ أصابتنا الغفلة فلم ندرك من قبل أهمية تلك القضايا لنناقشها.. إنه مفكر تؤرقه تفاصيل الواقع المعاش مثلما تؤرقه قضايا الفكر الشاملة.. ومصدر الجاذبية هنا أنك لا يمكن أن تضبطه إلا صادقاً فى مبادئه ومحال أن تجده إلا أميناً مخلصاً متجرداً من الهوى أو الضعف الإنسانى الذى يسوق غيره إلى التلوث أو المهادنة أو السباحة مع التيار.. إن الاتساق البديع بين ما يحمله فى سويداء قلبه وبين ما يطرحه من سطور شجاعة مقتحمة هو مفتاح لغز فتنة العقول بإبداعاته..

فإذا ما نويت أن تنحى القراءة جانباً.. وتفتح التليفزيون فليس لديك من أسلحة تجرؤ بها أن تكابر فلا تتابع مأخوذاً تحفة مسلسلة له.. إنه يشدك إلى عالمه الأثير الذى أخلص له عمراً توج خلاله أميراً على عرش إمارة لا تقبل المشاركة وتستحى على المقارنة.. وتستعصى على الخلع.. أو النقل أو الاستنساخ أو المحاكاة.

كتب للتليفزيون ما يقرب من ثلاثين مسلسلاً بالإضافة إلى عشرين سهرة درامية.. وللكم هنا دلالته التى لا تتناقض مع الكيف.. بل تدعمه وتؤكد أن القريحة فياضة والموهبة دفاقة..

وكل مسلسل يمثل رحلة.. فـ«ليالى الحلمية» هى رحلة البحث عن الهوية المصرية من خلال تاريخ وطنى.. و«أبوالعلا البشرى» يمثل رحلة «دون كيشوت» المقبل من زمن مختلف ليواجه مجتمعاً فظاً لا أخلاق له.. وفى «ضمير أبلة حكمت» تخوض البطلة رحلة صراع الشرف والضمير بشموخ وإباء فى مواجهة البلادة والتسيب.. وفى «الراية البيضاء» تدور المنازلة بين القبح والجمال.. وفى «زيزينيا» يبحث البطل عن سر وجوده.. وفى «امرأة من زمن الحب» تتجسد رحلة البطلة فى تمسكها بمبادئها فى زمن اختلت فيه القيم..

فإذا أردت الفكاك من أسره أو التمرد على هيمنته فليس أمامك سوى الهروب إلى مجال تتوهم أنه بعيد عن مضماره.. وليكن المسرح.. إنه يدعوك إلى الاستمتاع بمشاهدة رائعته «الناس إللى فى التالت» التى يستدعى بها حقبة تاريخية كثر الجدل حولها.. فيأسرك بطرحه الجاد الذى يصوغه فى قالب درامى خلاب.. دون أن يلتفت إلى لغو ولغط متعهدى توزيع الاتهامات والتشكيك فى الانتماءات أو التلميح بالتراجعات، وإن كان بصفته مقاتلاً صنديداً متمرساً لا يفتأ أن يخوض نزالاً درامياً مع معارضيه.. تعودت ألا أشفق عليه فيه من استهلاك طاقته وتبديد وقته وتعطيله عن إبداعاته.. فليس مثل أسامة.. قادراً على تحقيق ذلك التوازن الدقيق بين أزمنة الإبداع وأزمنة العراك.. هل تريد دليلاً على ذلك؟!.. حسناً إنك ما أن تشهد له بالبراعة فى التأليف المسرحى فإنه سرعان ما يباغتك ويخرج لك من جرابه الساحر روايتين دفعة واحدة هما «منخفض الهند الموسمى».. و«ووهج الصيف» (والتى شرفت بكتابة السيناريو والحوار لها كمسلسل أخرجه بإبداع ابنه المخرج الشاب الراحل «هشام عكاشة») فإذا ما أبديت دهشتك أسكتك بإعلانه أنه أخيراً قد عاد إلى عالمه الأثير ومياهه الدافئة التى طالما اشتاق إلى معانقتها وعطله عنها تعاقداته التليفزيونية.. ومن ذا الذى يملك حق حرمانه من زيارة وطنه الأول.. أرض الأدب المقروء.. حبه الأول الذى يصفه فى تعبير بليغ بأنه (يلامس عصباً حساساً فى أعماقه) فإذا ما ساورك الشك فى أن تطاول قامته روايتيه إبداعه المرئى -وإن كانت المقارنة هنا لا تجوز- يستشعر هو معك هذا الهاجس.. لأنه يكتب لك ويستهدف فى المقام الأول أن تصلك رسالته.. وإن كان يهمه أيضاً بدرجة عالية أن يحقق مستوى فنياً متميزاً يزهو به ككاتب كبير يعنيه أن يظل مقامه محفوظاً بين الكبار.. والناس مقامات.

يقول فى مقدمة روايته «منخفض الهند الموسمى»: كان التحدى الحقيقى أن أثبت لنفسى قبل غيرى أن قلمى الذى ابتعد عشرين عاماً عن القصة والنص الروائى لم يعقم ولم يغترب.. وأنه ما زال قادراً على أن يخوض بى تجربة مغامرة روائية أحلم بها منذ سنوات..

ما أن تنتهى من قراءة الرواية حتى يستولى عليك الذهول.. فبالإضافة إلى عمق الرؤية المطروحة وأهمية مضامين المحتوى بأبعاده الفكرية والاجتماعية والنفسية الذى يعكس قدرة فائقة على قراءة ورصد وتحليل الواقع المعاش وحركة المجتمع -فى تعرية كاملة- ومواجهة عاصفة مع أمراضه وعوراته..

أقول إنه بالإضافة إلى ذلك فإن المبهر حقاً الصياغة التى يتوهج فيها تلاحم الشكل بالمضمون والفكرة مع الحبك الدرامى وعذوبة العبارة مع الرسم الحاذق للشخصيات وتنامى الصراع مع القدرة الفائقة على ضبط الإيقاع المتدفق وتزاوج صور بلاغية وبيان بديع ذى جرس خاص مع معانٍ ذات دلالات خاصة فى سياق لا يعطل حدثاً ولا يعوق تطوراً درامياً..

ثم رحل «أسامة» كما عاش منتصباً كزهرة لوتس لا تنحنى وفرساً نافراً فى الغمام.. لكن أعماله لن تموت.. ستظل شاهدة على العصر.. شفافة كأدمع الربابة.. متوهجة كشموس من نار.. عميقة كغابة..