«مهران».. فدائى اقتلع الإنجليز عينيه لدفاعه عن «بورسعيد».. وشاهد على مأساة حصارها من النظام الجديد
![«مهران».. فدائى اقتلع الإنجليز عينيه لدفاعه عن «بورسعيد».. وشاهد على مأساة حصارها من النظام الجديد](https://watanimg.elwatannews.com/old_news_images/large/78175_660_2214965_opt.jpg)
ما إن تصل إلى مقهى «سمارة»، وتسأل عنه، حتى يرشدك أى من الجالسين أو حتى المارة إليه، كأنه «معلم» المقهى، أو رائدها المستديم. على مقعد متهالك، فى المقهى «عالى السقف»، يجلس محمد مهران، تزين رأسه «عوينات» سوداء سميكة، ويرتدى «بدلة قديمة» تزدان بنيشان حصل عليه من القوات المسلحة تقديراً لدوره، يتحلق حوله المريدون. صوت النادل لا يتوقف عن النداء بالطلبات الجديدة، و«كركرة» الشيشة، بينما هو فى ركنه يتكئ، كملك على عرش مدينته الخاصة؛ مدينته التى صنعها من صخب الناس. بيته خلف مقهى «سمارة» الذى اعتاد الجلوس فيه هرباً من جدران المنزل الضيقة وسقفه الذى لا يشعره بالبراح، يهبط للمقهى، يتلمس فى المتحلقين حوله الونس، ويبحث من خلالهم على الجديد من الأخبار، ويسكب عليهم من بطولاته القديمة وطنيةً وحباً للوطن.[Quote_3]
فى البدء، كانت حكاية البطل محمد مهران، الأثيرة التى لا تموت، هى حكاية بورسعيد، وأسطورة المقاومة الشعبية، التى لا يتوقف عن ترديدها على مسامع الحاضرين؛ لا يملون، ولا يسأم، فى حديثه طلاوة، وفى كلماته عزة وإباء. يحكى عن ذلك اليوم الذى تحولت فيه بورسعيد، بكل شبابها وعجائزها ونسائها إلى جنود فى المقاومة الشعبية للاحتلال من 3 دول كبرى؛ بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.[Image_2]
كان الاحتلال يستهدف بورسعيد بعد تأميم قناة السويس، تحولت إلى مدينة من الخراب، يخبر المريدين ألا يقلقوا، فبورسعيد تعودت الخراب، وتقدر على مغالبته. يعود إلى يوم 5 نوفمبر 1956، عندما توجهت الطائرات المعتدية لضرب منطقة الجميل وبعض المناطق السكنية فى المحافظة الباسلة؛ إذ بدأت المظلات فى الهبوط إلى المدينة بقوة تبلغ 31 إنجليزياً، فما كان من مهران، الذى كان يرأس «سرية المقاومة»، إلا أن قتلهم جميعاً بمعاونة رفاقه، ولم يبقِ على أحد، بعد ذلك بدأ المزيد من القوات البريطانية فى التوافد، فصنعوا حفراً فى الشوارع الترابية، باتت خندقاً يقيهم نيران العدو، حتى كان رفيقه فى الحفرة، الذى خرج لملاقاة العدو فقتل، وخرج مهران فأخذ رصاصة فى رأسه، سقط مغشياً عليه فاقداً للوعى. يشير لمن حوله، يفرق شعره، لكى يرى المريدون آثار الرصاصة التى ما زالت عالقة، شاهدة على تاريخه. أُخذ محمد مهران، ووقع فى الأسر. يقف قليلاً، يشرب المياه، يتهدج صوته مستعيداً تلك اللحظات القاسية، يذكر من حوله من أهل بورسعيد بأن النيران التى تعرضوا لها على مدار الأيام الفائتة ليست جديدة على المدينة التى ظلت تحت وطأة النيران لأعوام طوال. يُصيخون السمع، يركزون من جديد، يطلبون أن يكمل حكايته؛ حكاية فقد العينين.
بعد وقوعه فى الأسر، حاول الضباط الإنجليز أن ينزعوا منه اعترافات عن السرية والمقاومة الشعبية فى بورسعيد، رفض، ساوموه على الحرية، فأجابهم أن حريته تكمن فى أن يرحلوا عن وطنه، أحسوا بعناده، يقول إن البورسعيدى هكذا بطبعه، شخص يتسم بالعناد، لا يقبل أن يملى أحد عليه شيئاً، أو يُسيّره كيفما يشاء، مهما كانت حالته بالغة السوء، إن فرضت الرئاسة حظراً خرقوه، حتى لو كانت الشوارع توحى بالرعب. حُمل مهران إلى قبرص، لا يعرف لمَ يذهبون به إلى هناك، فجأة وجد نفسه على سرير فى المستشفى، تابع للقوات البريطانية، اندهش، وجد ضابطاً طبيباً بريطانياً يتحدث إليه، يسب مصر وعبدالناصر وبورسعيد، طالبه مهران بألا يفعل ذلك، ويلتزم الأدب، فلم يستجب، فما كان منه إلا أن سب بدوره بريطانيا ورئيس وزرائها آنذاك، تحول الحوار بعد ذلك إلى عقد صفقة فيما بينهما، قال له الطبيب: هل ترى عمياناً فى بلدكم؟ فأجابه بنعم، فعاد للسؤال: أيهما أفضل الأعمى أو البصير؟ فلم يكن من البورسعيدى إلا أن قال: البصير، حيث يمكنه رؤية حقيقة الأشياء، رد عليه الضابط الإنجليزى قائلاً إن من سوء حظ مهران أنه قد تسبب فى عمى ضابط بريطانى فى بورسعيد، والعدل يقول إنه سيأخذ عيناً منه، يأخذ قرنيتها، ويعطيها للضابط البريطانى، ليرى كل منهما بعين واحدة وأخرى مغمضة، لكن بشرط أن يسجل مهران تسجيلاً بصوته، يبث فيه طيب المعاملة، ويعلن دخول القوات البريطانية بورسعيد. قبل مهران، جاء ذلك بعد عذاب أحدق به، وصنوف من الألم تجرعها على أيدى الضباط الذين أوسعوه ركلاً وإهانةً، صرخ، بلا مجيب لصرخاته، أحس بدنو الأجل، أراد الراحة من العذاب بأى ثمن. ربت عليه الضابط بعد موافقته، وأخبره أن التعذيب سيتوقف، فتح جهاز التسجيل، وقال: «نحن الآن فى قبرص، معنا الشاب المصرى محمد مهران، يتحدث عن السياسة الفاشلة فى مصر، والاستقبال الرائع من شعب بورسعيد للقوات البريطانية»، وأشار لمهران، أى تحدث، فقال مهران: «من هنا أطلب من الله النصر للفدائيين المصريين على أعداء مصر وأعداء العروبة، تحيا مصر، يحيا جمال عبدالناصر».[Quote_1]
أغلق الضابط جهاز التسجيل، ومعه أُغلقت عين مهران للأبد، نيران سرت فى عينيه، وارتعاشة فى جسده لم تتوقف، لم يفقد عيناً، بل فقد الاثنين، وغابت عن بصره الرؤية، لكن بصيرته ظلت نافذة، ترى كل شىء، قال له الطبيب عقب العملية جملة واحدة: «فعلنا ذلك لتكون عبرة لأمثالك فى مصر». أنفاس المحيطين مبهورة، مأخوذة بما يسرد، يكادون أن يبهتوا؛ إن هذا البطل يعيش على أرضهم، يتذكرون ما تجرعوه طوال الأيام الماضية، يحسون أن مهران لا يتكلم عن بطولاته فخراً، إنما ليعرفهم تاريخ الأجداد، هم أحفاد 56، كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، يعلمهم أن الوطن ليس بالتركة الهينة، من لا يسير على طريق بطولات الأجداد يخيب، ومن لا يتحمل فى سبيل الوطن الموت والتعذيب لا يستحق أن يعيش.
يسألونه عن رد الرئاسة المصرية وقتذاك، يقولون له إن أحد مصادر إحباطهم أن الرئاسة لم تلتفت إليهم رغم كل الشهداء الذين سقطوا، لم تذكر حتى أسمائهم أو تضمهم إلى شهداء الثورة. رغم أن القطن يحل محل العين، لكن لمعاناً سرى فى عين مهران، فى قلبه، فى وجهه، نور.. هكذا. حين تذكر ما حدث معه عندما عاد إلى مصر، فاقداً عينيه، حيث خطفه أحد الأفراد من القوات المسلحة من الأسر، وأعاده لمصر، تحديداً لمستشفى المعادى العسكرى، حيث فشلوا هناك فى مداواته، قائلين إنهم فى قبرص أزالوا عصب العين، حتى لا يعود مبصراً مهما حاول الطب أن يفعل. فى أثناء رقدته فى مستشفى المعادى، جاءه الخبر بأن ثمة زائر يحب مهران ويحبه سيجىء الليلة، حمد الله أن والدته عرفت أخيراً، وجاءت ليلتمس دفئها، فجأة سمع صوتاً فى الغرفة يعرفه جيداً، صرخ بما تقوى حنجرته: «إنت جمال عبدالناصر؟! إنت جمال عبدالناصر؟!»، أخبره بأنه عبدالناصر ومعه عبدالحكيم عامر، وزكريا محيى الدين، سلم عليهم، وطلب منه عبدالناصر أن يحكى ما حدث بالتفصيل، إن كان ذلك لا يؤثر على نفسيته. يتوقف مهران قليلاً، يشير إلى إنسانية عبدالناصر قبل أن يكون رئيساً، يقارن ذلك بالوضع الحالى، حيث يغيب الرئيس عن شعبه الذى يقتل وتسفك دماؤه فى الطرقات، هكذا ديدنه، يعرج بالتاريخ على الحاضر، لعل الخلف يتعلم من السلف، يقول إن عبدالناصر ما إن وصلت الحكاية إلى قول الضابط الإنجليزى: «لتكون عبرة لأمثالك من المصريين»، انتفض، وقرص مهران فى رقبته، قال له: «إيه؟!.. قلت إيه؟!.. الإنجليز غلطوا غلطة كبيرة قوى يا مهران، هما خدوا عينيك مش عشان تكون عبرة للمصريين، لكن عشان تكون قدوة لكل مصرى، ولكل إنسان حر بيقاوم الاستعمار».
يصمت مهران قليلاً، يأتى النادل بالشاى، ويمر على المتحلقين بالمشاريب، يحتسى هذا قهوة تعينه على مزيد من السمع، ويتحدث أولئك فى صخب بعيد عنه لا يمنع المتحلقين فى دائرته من إرهاف السمع؛ فما عند البطل خير ممن يتكلمون فى الشاشات، ويزعقون بلا جدوى. يعود للحديث عن بورسعيد التى تعيش تحت أقدام الإهمال، يقول إن مبارك لم يقدم لهم شيئاً رغم بطولاتهم، [Quote_2]ويأسف على أن الهدية الوحيدة التى أهديت لبورسعيد كانت فى الفترة الأخيرة من قبل الرئيس «مرسى»، ألا وهى حظر التجول، وقانون الطوارئ، يقول إن بورسعيد لا تستحق ذلك، المدينة التى دحرت الدول العظمى وحولتهم إلى مهزومين لا تستحق أن يفرض عليها كائناً من كان قانون طوارئ أو تحديداً لساعات وجود الناس فى الشارع. سقط أكثر من 50 شهيداً، وقرابة ألف مصاب فى ليالٍ معدودات، يسأل: «دا جزاء بورسعيد؟!». يحدثهم عن سجن بورسعيد، الذى حمل قديماً بين قضبانه أبرياء كابدوا الاحتلال، والآن سقط أمامه عشرات الشهداء بلا ذنب، يرى أن الأزمة تكمن فى كون أهالى بورسعيد كانوا قديماً يحاربون العدو، ويستلذون بطعم الانتصار، ويفخرون حتى بالاعتقال والسجن، لكن الآن لا أحد يعرف من يحارب، والعدو مجهول، والمصريون يقتلون بعضهم بعضاً، لا يراعون حرمة أو وطنية، غابت عنهم بطولات أهالى بورسعيد، فهانت عليهم دماء المدينة الباسلة.
يتحدث عن كون بورسعيد تعرضت لمؤامرة، بصفة خاصة، ومصر بصفة عامة، تحديداً مباراة «الأهلى والمصرى» التى كانت منذ عام، ووقع خلالها 74 شهيداً، يقول إنه لا يكره «الأهلى»، ولا يتخيل أن يُصنع بجماهيره ذلك، يعلل تلك المؤامرة بالانتقام من بورسعيد وأهلها، ولا يعرف لمَ هذا النكران. يذكر الحالة التى تعيشها بورسعيد هذه الأيام بأنها الأسوأ على مدار حياته: «معدتش عارف أنام بالليل من القلق، بافضل أفكر وأبكى»، حيث لم يسبق له، وهو الذى قاتل حتى فقد أعز ما يملك لإجلاء الاحتلال عن مصر، أن شاهد المصريين يفقدون عيونهم على أيدى مصريين مثلهم، يشعر أن ما فعلوه فى عام 1956، وبقية الجنود المصريين فى الجبهات، يضيعه البعض فى خلافات تُصنع، وتقسم المصريين، يطالب بأن تعود الوحدة للصفوف من جديد.
فى نهاية حديثه، الذى كانت «الوطن» حاضرة فيه، طلب منا أن ننقل عنه مبادرة ربما تنهى الاحتقان قائلاً: «أنا على استعداد تام أن أذهب بنفسى إلى داخل النادى الأهلى فى القاهرة، وأنا أعتذر لجماهيره فرداً فرداً، وأن أقابل أهالى شهداء مذبحة الاستاد الـ74، وأقدم لهم التعازى، ولو أرادوا أن يأخذوا روحى كقصاص لأولادهم فلن أتوانى عن تقديمها، إن كان ذلك سيهدئ الأهلاوية، أو يجعل مصر تنعم من جديد بالهدوء، ليعود الترابط والتلاحم للشعب، وترجع بورسعيد من جديد لبهائها».