شياطين الإنس هم الأكثر شراسة.. حكايات وطن 73

أمانى هولة

أمانى هولة

كاتب صحفي

منذ أن أخبرتنى جدتى وأنا صغيرة تلك المعلومة الخطيرة وأنا أنتظر كل عام قدوم شهر رمضان على أمل رصد تأثير سلسلة الجن والشياطين وحبسهم فى هذا الشهر الكريم..

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صُفدت الشياطين ومردة الجن، وغُلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادى مناد كل ليلة: يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة)، ويمضى قطار العمر سريعاً وما زالت تلك المحطة الأثيرة إلى قلبى موضع تأمل وأمل كل عام.. عندما تدوى صافرته للتوقف عندها معلناً تخليه عن ركابه الرذلاء من جن وشياطين حتى المحطة التالية لنجد فرصة للراحة بعيداً عن مشاركتهم الخبيثة فى مقاعدنا وقراراتنا وأفعالنا لمدة شهر كامل.. ولنتلمس نفحات من ريح الجنة وقد فتحت لنا أبوابها.. وأصبحت الدعوة عامة ومتاحة للجميع للدخول من كل الأبواب المرحبة بالمقبلين وتذكرة الدخول هى مجرد توبة صادقة.. لنكتشف فى مرآة أنفسنا الحقيقة المؤلمة أننا لم نفقد سوى شماعات كنا نعلق عليها كل أوزارنا وخطايانا، فما زال السائقون فى الشوارع يقودون بطريقتهم غير الحضارية ويتدافعون فى أنانية تعطل الجميع.. ليهبط أحدهم من سيارته مفتتحاً حفل الشتائم هى هى.. واضعاً (التاتش) الرمضانى عليها بأنه صايم ومش طايق نفسه وخرمان سجاير وخلقه فى مناخيره.

وما زال معدل الجرائم اليومية التى قفزت من خانة الاستثناء فى سلوكياتنا لتصبح (أسلوب حياة) بكل أنواعها من بلطجة وسرقة وغش تجارى ورشوة وتفتيح المخ وتسليك المصالح مع إضافة (التاتش) الرمضانى عليها بكل سنة وأنت طيب يا باشا، وكأن شهر الصوم مبرر لزيادة الهبات الحرام، وما زالت تطالعنا وكالات الأنباء العالمية بصور القتل وسفك الدماء وطرد الأبرياء وتشريدهم من ديارهم بلا خجل فى الشهر الفضيل بينما يعلن التاريخ فى حزن كيف كان السلف الصالح يمارسون الحياة بنبل أكثر وبروح الفرسان حتى فى الحرب فيتوقفون عن القتال إجلالاً لأيام الله ومواقيته ولكننا وضعنا (التاتش) الرمضانى لهذا الزمن الردىء.. بأن يتصيد الحقراء موعد الإفطار لحصد أرواح أبنائنا المرابطين لحراسة أمن الوطن دون أن يعتدوا على أحد فيقتلونهم بخسة وغدر و(ما يزيد الطين بلة) أن القتلة المأجورين يلوحون براياتهم السوداء وقد خطوا عليها بوقاحة لا إله إلا الله.

وفى محاولة لإيجاد مبرر لكل هذا الجنون أحاول أن ألتمس الأسباب، فلا بد أن هؤلاء البشر هم جنود آخرون لله وحكمته التى نعجز عن الإحاطة بها لزيادة قوة الاختبار الإلهى.. تماماً مثل الوظيفة القاسية لأخيهم إبليس.. ولكن لأنه يمارس حقه فى الإجازة السنوية من رصيد إجازاته الاعتيادية هو وكل (التيم بتاعه) والمتفق عليها سلفاً من بداية الخدمة على كوكب الأرض.. فقد حمل بعض البشر الراية وتولوا المسئولية بجدارة تفوق التلميذ على أستاذه ليزداد الاختبار الإلهى صعوبة.. حتى يتم تمييز الشطار من البلداء.. فالامتحان متاح كل عام لتحسين المجموع.

ألقى نظرة أخيرة على دفتر أحوال الوطن وقد فاض منه المداد بآثام البشر.. لأدرك أننا الأكثر شراسة من شياطين الجن ومردته المصفدة فسامحينى يا جدتى.. الحدوتة طلعت ملتوتة.. بكل آلام المقهورين ودموع الأبرياء وحسرات الثكالى والأيتام.. فلنا الله.. لنا الله يا رمضان!