أم كلثوم.. سنوات النضج والانكسار

فى كتابها (صوت من مصر.. أم كلثوم والأغنية العربية والمجتمع المصرى فى القرن العشرين) كتبت «فرجينيا دانيلسون» تقول إن العام 1926 كان نقطة تحول فى مسيرة أم كلثوم الغنائية، إذ قررت الاستغناء عن أسرتها التى كانت تصاحبها على المسرح أثناء الغناء، وأن تستعين بتخت جدير بالاعتبار، لتبدأ رحلتها مع الحفلات العامة، ومع أنها فكرت أولاً فى اختيار مسرح الأزبكية لتغنى عليه، إلا أنها اختارت مسرح دار التمثيل العربى لأول حفل أحيته، وهو المسرح الذى كانت تغنى عليه منيرة المهدية، ويبدو أن اختيارها لم يكن صدفة، إذ بدأت منيرة تشن ضدها حرباً ضارية، استخدمت فيها أحياناً أسلحة غير شريفة، واستخدمت صحفيين، كان من أبرزهم «عبدالمجيد حلمى» رئيس تحرير جريدة «المسرح»، الذى كتب طوال أسابيع مشككاً فى أخلاق أم كلثوم وفى وجود علاقة زواج بينها وبين شخص كان يتردد كثيراً على بيتها، وكان من نتيجة ذلك أن أعلنت عدم استقبال ضيوف فى بيتها بعد ذلك، وأصبحت تتعامل مع الصحافة بحذر شديد.

وخلال السنوات الخمس التى أعقبت لقاءها بالشيخ أبوالعلا محمد (من 1922 إلى 1927) تلقت أم كلثوم فن غناء القصائد، وانطلق صوتها بـ«الصب تفضحه عيونه»، و«كم بعثنا مع النسيم سلاماً»، و«يا آسى الحى»، وغيرها مما اعتبره الناقد والمؤرخ كمال النجمى.. «ثورة غنائية قائمة على بعث الطريقة العربية فى الغناء بدلاً من الاقتباس أو الاستمداد من طرائق الغناء الأوروبى».

لقد ثقفت حنجرتها فى مدرسة الشيخ أبوالعلا محمد، فصارت لهجتها فى الغناء لهجة مثقفين، فيما غيرها من المطربات يغنين الشعر الفصيح بلهجة سوقية مثلما يغنين الطقاطيق الرخيصة فى مقاهى الأزبكية، ووفقاً لما ذكره النجمى عن الطابع الأساسى فى غنائها للقصائد خلال هذه المرحلة.. فإن إطلاق صوتها على امتداد مقاماته السبعة عشر، والتشدد فى دقة الأداء تحقيقاً لما أسماه «قوة الأسر» فى الغناء العربى المتقن، كان بمثابة.. «استطراد للفصاحة فى الشعر العربى، إذ لا تجتمع الفصاحة الشديدة فى الشعر مع ركاكة الغناء واسترخائه».

■■

حقق التخت الجديد فى نظر محبيها نجاحاً ساحقاً، وكتب أحد المعلقين يقول إن صوتها بلغ حد الكمال، وواكب هذا النجاح تطور حاسم فى شخصيتها، حتى إن إحدى الصحف علقت: «أم كلثوم التى كانت تقدم الإنشاد الدينى فى حفلاتها وتشمر أكمامها وتأكل بيديها.. صارت اليوم تغنى الطقاطيق والأدوار العاطفية وتأكل بالشوكة والسكينة وتسألك عن أحوالك بالفرنسية. وعندما كانت الصحف تنشر عنها أنها لا تدخن ولا تسرف فى أى شىء، وأنها المطربة الوحيدة التى درست علم النوتة والأوزان والأنغام.. كانت تنشر عن منيرة المهدية أنها عندما تستيقظ تدخل خادمتان، واحدة فى يدها مبخرة لتبعد عنها عين الحسود وشر العدو اللدود، وفى يد الأخرى حجر حمام لتدليك قدميها.

وقد بدأت أم كلثوم حفلاتها فى النصف الأول من الثلاثينات بدون وكيل (أى وسيط)، إذ كانت تتفاوض على تأجير المسارح بنفسها وترتيب أمر إعلاناتها أيضاً، لكن الخطوة الأهم كانت اعتمادها على علاقات مع أصحاب النفوذ، هؤلاء الأصدقاء والمعجبون كانوا يلتقون بها فى بيتها فى وجود أخيها وأبيها. وبمرور الوقت اجتذب صالونها شخصيات عامة، مثل طلعت حرب وشوقى والعقاد ومكرم عبيد وفكرى أباظة وغيرهم، ومن كل هؤلاء حصلت على خدمات وتعلمت كيف تتحدث بذكاء فى السياسة والأدب وكيف تتمثل سلوكيات المجتمع الراقى.

■■

عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ونهض المصريون يعرضون على سلطة الاحتلال مطالبهم الوطنية غنت أم كلثوم لشوقى قصيدة «سلوا قلبى»، فما تكاد تصل إلى قوله: «وما نيل المطالب بالتمنى»، حتى يعلو الهتاف والتصفيق وتختلط الحماسة الوطنية بالأشواق الدينية، لتصبح أم كلثوم دون أن تقصد من دعاة الجلاء. وفى 1948 طلبت من الفريق حيدر باشا وزير الحربية إبان حرب 1948 أن تسافر لتغنى للجنود على خطوط النار، فرفض إشفاقاً عليها من المخاطرة، لكنها لم تستسلم ونظمت حملة للمجهود الحربى بلغت حصيلتها آنئذٍ 22 ألف جنيه، أضافت إليها خمسمائة جنيه من مالها الخاص وأربعين جنيهاً من الإذاعة عن كل مرة يذاع فيها «نشيد الشباب» الذى غنته خصيصاً لفلسطين. وعقب اندلاع ثورة 1952 أمر مسئول فى الإذاعة بوقف بث أشرطتها بحجة أنها غنت أيام الملك، فعلق عبدالناصر: «طب ما الشمس كانت بتطلع أيام الملك»، وبعد ساعات كان صوتها يجلجل بأغنية «صوت الوطن». وفى 1956 غنت لصلاح جاهين وكمال الطويل «والله زمان يا سلاحى» التى أصبح لحنها نشيد مصر الوطنى، وفى أعقاب العدوان الثلاثى تبرعت بعشرة آلاف جنيه لتعمير بور سعيد، وفى 1964 دبر عبدالناصر «لقاء السحاب» الذى جمعها بعبدالوهاب فى رائعة أحمد شفيق كامل «انت عمرى»، وعقب هزيمة 1967 مرضت وفقدت شهيتها للطعام وعاشت على المقويات ولزمت بيتها على نيل الزمالك، ثم جمعت شتات نفسها وحولت حزنها إلى غضب، وغضبها إلى إرادة، وأنشأت «التجمع الوطنى للمرأة المصرية» وخصصت إيراد حفلاتها داخل وخارج مصر للمجهود الحربى فجمعت مليونى جنيه، وفى الوقت نفسه خرج صوتها من ضجيج مظاهرات التنحى فى 9 و10 يونيو مناشداً: «ابق فأنت الأمل الباقى»، وبينما كانت تستعد للوقوف أمام جمهور مسرح البولشوى فى موسكو بلغها نبأ رحيل عبدالناصر فعادت إلى القاهرة، اعتكفت قليلاً ثم ذهبت إلى وريثه أنور السادات -وكان بينهما ود قديم- وهنأته: «مبروك يا أبوالأنوار»، فإذا بالسيدة جيهان السادات تنهرها قائلةً: «اسمه الريس إذا ما كنتيش تعرفى.. بذمتك كنتى تقدرى تقولى لعبدالناصر كده؟»، وإذ تشرع فى إنشاء «دار أم كلثوم للخير» ويصبح المشروع قاب قوسين أو أدنى من التحقق، تنشئ جيهان السادات «جمعية الوفاء والأمل»، وفى العام 1975 ماتت أم كلثوم.. غابت «كوكب» الغناء ودخل «الشرق» فى ظلمةٍ حالكة!.