الشيخ الشعراوى.. صوت بقرب العرش موصول الدعاء

ألسنة حرائق تلاحق شعارات جوفاء عن الحرية والعدالة والكرامة. مبانٍ خربت ووقفت هياكلها شاهداً على أسوأ ما فينا. فوضى شوارع وانفلات أمنى وإعلامى وانهيار سياسى واقتصادى واجتماعى. شتائم وخوض فى الأعراض. مكائد إقليمية وظلال مؤامرة كونية وجبهات مفتوحة على احتمالات شتى.. من قلب هذا المشهد يخرج صوت الشيخ «محمد متولى الشعراوى».. عذباً، مفعماً بالأمل والكبرياء: «يجب علينا أن نتنبّه دائماً إلى ما يُراد بنا من كيد، وما يُراد بنا من شر، فأرونى فى مصر، مصر الكنانة. مصر هى التى قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهلها فى رباط إلى يوم القيامة. من يقول عن مصر إنها أمة كافرة؟. إذن فمن المسلمون؟. من المؤمنون؟. مصر هى التى صدّرت علم الإسلام إلى الدنيا كلها. صدّرته حتى إلى البلد الذى نزل فيه الإسلام. هى التى صدّرت لعلماء الدنيا كلها علم الإسلام. أنقول عنها ذلك!. ذلك هو تحقيق العلم فى أزهرها الشريف. وأما دفاعاً عن الإسلام.. فانظروا إلى التاريخ. من الذى رد همجية التتار عنه؟. إنها مصر. من الذى رد هجوم الصليبيين على الإسلام وعلى المسلمين؟. إنها مصر. وستظل مصر دائماً رغم أنف كل حاقدٍ أو حاسدٍ أو مستغِلٍ أو مستغَلٍ أو مدفوعٍ من خصوم الإسلام هنا.. أو خارج هنا. إنها مصر.. ستظل دائماً».

ليس «الشعراوى» عالم دين أو داعية هداية فحسب، بل هو «صوت بقرب العرش موصول الدعاء». هو التفسير العفوى لنص «معجز»، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. هو خطوتك الأولى إلى الله، وخطوتك الأخيرة إلى نفسك.. فتعال نتحدث عما بينهما.

كأى تلميذ خائب: كنت أحفظ القرآن وأنساه فور انتهاء الدراسة. وكأى مسلم عاقل أصبحت أقول إن القرآن معجزة بلاغية دون أن أسأل نفسى: لماذا «قل سيروا فى الأرض»، وليس «قل سيروا على الأرض». وكأى عاشق لـ«الكتابة»: أرى أن فى عنقى ديناً لرجل أخذنى من يدى وتجولنا معاً فى دهاليز اللغة. الـ«فى» شقيقة الـ«على»، لكنهما فى كتاب الله وظيفتان.. فلمن تكون الـ«عن» إذا لم تكن لهذا الرجل!.

هناك أطنان من الكلام المكتوب «عن» الشعراوى، بين سيرة ذاتية (يرويها بنفسه أو من خلال أحد مريديه أو منتفعيه)، وحوارات صحفية مطولة تستعرض مواقفه من قضايا دينية ودنيوية. بين هذه وتلك حزمة هائلة من الأخبار تتراوح بين: «الشعراوى يفتتح محلاً لبيع منتجات الألبان»، و«الشعراوى وزيراً للأوقاف».

عندما ذهبت إلى قسم المعلومات فى جريدة الأهرام للاطلاع على ملف الشيخ الشعراوى فتح الموظف المختص ثلاثة أدراج، فى كل درج أكثر من عشرة دوسيهات، كل دوسيه يحتاج إلى ليلة كاملة للانتهاء من قراءته. وقفت حائراً بضع دقائق، فاعتقد الموظف أن الأدراج الثلاثة لا تكفى، فاستدرك قائلاً: هناك المزيد من الملفات والدوسيهات. فقلت لنفسى: سأقرأ ما تيسر، وسأنتقى من كلام الشيخ والمواقف التى صنعها، أو صنعته، ما أرى أن له وزناً ودلالة.

يقول الشعراوى إن أباه قال له وهو طفل: «اتشعلق فى ربنا وضع قدميك فى أى مكان».. هذه صورة بليغة لا ينطق بها سوى شاعر. لكن الشيخ يعود ليقول إن أباه أثخنه بعلقة ساخنة لأنه كان يجلس تحت شجرة جميز على ترعة فى قريتهم (دقادوس) يتأمل الفراشات والحقول والمياه، ويصنع من الطين أشكالاً. كادت هذه الهواية أن تشغله عن الدراسة، لكن العلقة ردته إلى صوابه!.

يتذكر الشيخ أنه كان زعيماً لحركة طلابية عُرفت فى أوساط الأزهر باسم «حركة المراغى»، نسبة إلى الشيخ المراغى الذى أبعده الإنجليز والحكومة عن مشيخة الأزهر بسبب مواقفه الوطنية المناوئة لهما. ويقول إنه قُبض عليه بتهمة العيب فى الذات الملكية، وسيق إلى السجن للمرة الأولى والأخيرة فى حياته، وخرج منه أكثر صلابة وتشبثاً بمواقفه. واصل مع زملائه مقاومة الاحتلال، وكانت فى رأيه «فرضاً» على كل مسلم ومسلمة، شاباً كان أم شيخاً. لكن الأمور استقرت الآن: «ليس هناك عدو أو احتلال. نحمى أنفسنا بأنفسنا، وهذا يعنى أن كل واحد ينصرف إلى عمله. كل واحد يشوف شغله، وعلى الطلاب أن يتفرغوا للدراسة والتحصيل».

كان الشعراوى وفدياً، وكان صديقاً فى الوقت نفسه لـ«حسن البنا»، مؤسس جماعة الإخوان التى حكمت مصر مؤخراً ولعبت سياسة بأدوات الدين، فى خلط فاضح بين النسبى والمطلق، بين الحسى والمقدس، فخسرت الاثنين. لكنهما -هو والبنا- اختلفا فى «النحّاس»: الشعراوى رأى فيه رجلاً طيباً، بل أقرب زعماء البلد إلى الله. هو حتى «لا يدخن». وكتب قصيدة فى مدح سعد والنحّاس ألقاها فى «النادى السعدى» عقب خروج الوفد من الحكم عام 1938. وعندما أرسل نصها إلى «البنا» غضب وقال قولته الشهيرة: «هو أعدى أعدائنا، لأن له ركيزة فى الشعب. هو الوحيد الذى يستطيع أن يضايقنا، أما الباقون فنستطيع أن نبصق عليهم جميعاً».

ودّع الشعراوى الإخوان إلى غير رجعة، وأعلن فيما بعد رفضه الواضح والقاطع لقيام أحزاب سياسية على أساس دينى: «السياسة فكر بشرى ضد فكر بشرى آخر. أما الدين فهو خضوع فكر بشرى لفكر سماوى.. والفرق كبير وواضح». وعندما عرض عليه أحمد الصباحى، رحمه الله، رئاسة حزب «الأمة» سأله: «هل تدّعى أن كل الأمة معك؟». فضحك الصباحى وقال: «ولا حتى بعضها»!.. فرد الشعراوى: «حسناً.. ما دام الأمر كذلك فلماذا لا تتركنى للكل؟».

كان الشعراوى يقول إن فترة وجوده على مقعد وزير الأوقاف هى الأسوأ فى حياته، لكنها لم تخلُ من قفشات. مرة سافر إلى روما لوضع حجر أساس مركز إسلامى، وقبل السفر طلب منه عبدالعظيم أبوالعطا وزير الرى، وتوفيق عبدالفتاح وزير التموين آنذاك أن يشترى لكل منهما زوجين من الأحذية (بنى وأسود)، فاستجاب لطلبهما. وفى اجتماع وزارى مع الرئيس السادات بعد ذلك دخل أبوالعطا والحذاء الجديد يلمع فى قدميه، فسأله السادات بطريقته المعروفة: الجزمة الشيك دى منين يا عبدالعظيم؟. فقال: «من مولانا الشيخ الشعراوى». بعد دقيقة دخل توفيق عبدالفتاح فلمح السادات حذاءه الجديد فسأله السؤال نفسه ورد بالإجابة نفسها. ثم دخل الشعراوى وكان يرتدى حذاء قديماً فسأله السادات: «أمّال الجزمة الإيطالى فين يا مولانا»؟.. فقال: «شايلها فى البيت عشان مقابلة الحكام».