أنا وأسامة أنور عكاشة حوار قديم يتجدد «12»

نصف قرن من تاريخ بلد تحرسه سلالة «ناجى السماحى».. ليبقى، ما بقى من (ليالى الحلمية). نصف قرن.. راحت وجاءت فيه أفكار وبشر والليالى تمر: ألقت سلامها على دم الشهيد وشدت سواداً نبيلاً على عينى كبير الحلمية: المعلم «زينهم السماحى». ملأت براويز الغلابة بصور الزعيم الخالد، وقالت لـ«شاهين وزكريا ومتولى»: هذا حملكم فاحملوه. دخلت قصر نازك هانم، خدمت سلالة الحسب والنسب وتمسكنت حتى أخرجت لسانها ولحست ذهب «سبعاوية». نصبت قداساً على شط الكنال: «ناجى ونجاة.. أمانة فى إيدك يا كمال يا خلة». ضربت قفا توتو صغيراً.. «بطل شقاوة وقوللى: كنت فين يا ولد.. سيبيه يا أنيسة.. سيبيه يا أنيسة»، حتى طوته الجنازير، وخرج من عباءة الشيخ «توفيقاً بدرياً» ناقماً على الكل.

إنها الليالى..

قلبت سليم باشا على كل الأجناب، وحافظت على صرة الفلوس والفارق الطبقى. أخرجت على البدرى زحفاً على بلاط المعتقل: من «بستان الاشتراكية» إلى هواء القرار 43 لسنة 1974. فتحت شهية «ناجى» للموت، وسكعت سليمان غانم كفاً على صدغ «زهرة».. «ربنا يديك طولة العمر يا بابا».. فيرد العمدة: «طولة العمر مع كسرة النفس مالهاش قيمة.. غورى من وشى.. ولّا أقولك.. »..

إنها الليالى..

توهت أحلام الجميع لأن المقهى صار معرضاً لسيارات «زيزو»، ولم يبق من حلمية «السماحى» سوى «علام». رحم الله أيام أن حلقت الحلمية رأس عادل البدرى «زلبطة» وزوّجته زينة بناتها، ثم طلقته وزوجته «سهيلة» بدلاً من السينما، وأدخلتها «شارع السلام» فى ذيل القرار 242.. زغروتة ياللى ما انتيش سامعة: «ناجى» اتقتل.. و«سهيلة» حامل فى «جيل» هيعوض خيبة على البدرى، والعجلة هتدور..

قلت لـ«أسامة»: سيسألك البسطاء: لماذا قتلت ناجى السماحى؟

- وأنا أسألهم: ما قيمة أن ينتصر «ناجى» فى معركته مع المفسدين وتنتهى المشكلة؟. سأقارن بينه وبين والده طه السماحى. «طه» ما زال أقوى شخصيات الحلمية رغم مرور ثلاثة أجزاء من المسلسل خلت منه، لكن النبل والإيجابية ومنطق التصدى وبيع الروح من أجل الوطن جعلت «طه» أقوى تأثيراً من كل الذين حوله، وكان حتى الجزء الرابع من المسلسل هو «الغائب الحاضر». فتأثير موت إنسان من أجل قضيته أكثر إيجابية من مجرد نجاح مرحلى فى مواجهة خطر ما، إذ بانتهاء الخطر ينتهى الخوف منه. وعندما نصل بناجى السماحى إلى حد الاستشهاد فى مواجهة هذا الخطر فهذا تحذير دائم منه. فضلاً عن أن موت «ناجى» يهدف إلى التركيز على عطاء الشخصية المصرية.. الشخصية المستعدة للاستشهاد عندما تجد القضية المناسبة.

■ سيقولون: إنه موت موروث من طه السماحى!

- لا.. هى ليست وراثة ابن الأب، لكنها وراثة قيم مصرية متغلغلة، أقول من خلالها: إن المصرى عندما يواجه خطراً حقيقياً تتفجر فيه كل الإيجابيات. إحنا ليه بنقول إن جيل على البدرى موكوس.. لأنه لم يستطع أن يوجد لنفسه قضية. كل تجارب هذا الجيل أصبحت خلفه وليس أمامه، والمشكلة أنه فقد حلمه ولم يستطع -كما قلت- أن يوجد لنفسه حلماً يعيش من أجله. وغياب الحلم هو الذى يعطل إيجابيات الناس، فموت «ناجى» دعوة لأن يكون لكل إنسان فى مصر قضيته ومشروعه وحلمه الذى يناضل من أجله.

■ الجزء الرابع تناول ما سميته أنت «مرحلة اللاقرار واللاقضية». كيف نقلت إلى الناس هذا المعنى؟

- بالتنويع على هذه القيمة نفسها. سنجد فى كل شخصيات الجزء الرابع نفس هذا التردد والحيرة والتوزع بين الاختيارات دون الوصول إلى قرار. ستجد ذلك فى «أنيسة وعلى وزهرة وناجى».. كلهم حائرون فى حالة عجز عن اتخاذ قرار.. فالمرحلة منطبعة على وجوههم. واستخدام هذه الحيرة درامياً هو الذى عوّض عدم وجود حدث سياسى أو اجتماعى مهم. استبدلت ذلك بمواقف نفسية وشبكة علاقات رفعت إيقاع الدراما. فمن حيث هو عيب فى المرحلة استخدمته فى الحلمية كميزة.

■ انتهت الحلمية إلى الأبد. وعندما تحاسب نفسك ستقيس بمعيار: إلى أى مدى تحقق الحلم الذى يرتبط عادة بفعل الكتابة؟. إلى أى مدى أنت راضٍ عن «الليالى»؟

- تحقق الكثير، لكن المؤشر المهم هو درجة استجابة الناس، فأنا لا أقيس النجاح أو الفشل إلا بهذا المعيار، وأعتقد أن الحلمية حققت تأثيراً من هذه الناحية أكثر مما كنت أتوقع. الحلمية على مستوى الدراما أو الفن ستظل حافزاً لأعمال كثيرة قادمة وتحدياً حقيقياً لكل من عملوا فيها وليس فقط بالنسبة لى. الحلمية من هذه الناحية أصبحت كعدّاء حقق رقماً قياسياً، وعلى الآخرين -من بعدى- أن يحطموه. على المستوى السياسى أعتقد أن الحلمية أثرت كثيراً فى مفاهيم الناس ورؤيتهم لما يجرى. وهى أول عمل فنى يجمع كل الملاحظات المتناثرة للناس عن حياتهم وسياسة بلدهم وتاريخهم القريب. وأعتقد أن من جملة الملاحظات التى تكونت أصبح المشاهدون أكثر تمسكاً بضرورة تجاوز مستوى الجدية الذى حققته الحلمية. أما على المستوى الفكرى فقد فرض المسلسل إنجازاً كبيراً فى مجال الأدب التليفزيونى، ولم يعد سهلاً تجاوز هذه القضية. أخيراً.. فالحلمية لم تكن نصاً والسلام. إنما تطورت لدرجة أنها أصبحت «حالة» بالنسبة للممثلين. هناك تاريخ طويل لكل شخصية عبر ثلاثة أجزاء سابقة، هناك أيضاً حالة الانتشاء بالنجاح الجماعى جعلت الممثلين فى سباق مع أنفسهم والآخرين لتأكيد هذا النجاح.

.. وغداً يتجدد الحوار