"كلاي" وشرارة الهامبورجر

بسمة حسن

بسمة حسن

كاتب صحفي

ترددت كثيرًا بشأن موضوع مقال اليوم، فالعديد من القراء عادة ما ينتظرون حديثًا يناسب الحدث وليس هناك حدثًا أعظم الآن من حلول شهر رمضان، الذي حلت علينا بركاته منذ أيام قليلة، في حين أنني كنت أجلت من ناحية أخرى تأبيني للملاكم الأشهر محمد علي كلاي -رحمه الله رحمة واسعة- استعدادًا لرثاء يليق به، فلم أودعه كباقي محبيه ومعجبيه بالإضافة إلى أشهر السياسيين والرياضيين والفنانين ورجال الدين، الذين تسارع وتبارى كل منهم في كتابة كلمات رثاء ووداع دافئة، ومليئة بالشجن لفقدان هذا البطل العظيم، متخذين من وسائل التواصل الاجتماعي بشتى صورها، وسيلة للتعبير عن تقديرهم، وحبهم لتلك الشخصية الفريدة التي من الصعب أن تتكرر خاصة في زمن "دونالد ترامب" - مرشح الرئاسة الأمريكية - و"داعش" رمزا التطرف في عام 2016 اللذين يمكن وصفهما بوجهين لعملة واحدة، وهو ما كان يؤكده محمد علي دوما "أن هناك من يستخدم الإسلام لتحقيق أجندات خاصة، وأن هؤلاء القتلة المضللين منعوا الرؤية الحقيقية للإسلام".

الأمر لم يأخذ مني تفكيرًا طويلًا، إذ إن الحديث عن هذه الشخصية النادرة متشعب ومتعدد، لا يحمل بين جنباته قضايا رياضية وسياسية فحسب، إنما أيضًا دينية وروحانية تعزز من أجواء الشهر الفضيل، وهو ما جعلني، وكما يقول المثل "أضرب عصفورين بحجر واحد".

خسرنا جولة ولم نخسر المعركة، نعم هكذا بالضبط ما شعرت به عند سماعي لخبر وفاة بطل الملاكمة محمد علي كلاي، الذي وافته المنية الجمعة الماضية بمستشفى داخل مدينة فينيكس بولاية أريزونا الأمريكية عن عمر ناهز 74 عامًا، إثر أزمة تنفسية حادة بعد صراع طويل مع مرض الشلل الرعاش، والذي قال عنه البطل المغوار هذه الجملة العظيمة "إن الله ابتلاني به ليقول لي وللناس إني لست الأعظم، كما كنت ألقب نفسي، لأن الله هو الأعظم".

المعركة هنا في هذه المرة ليست قائمة على حلبة رياضية تحمل ملاكمين ينتظر المشجعون في النهاية من سيقضى على الآخر بالضربة القاضية، لكن الحلبة في هذه المرة هي حلبة أوسع وأشمل، صراع سياسي وديني لم ينته، ولن ينتهي عدة جولات ربما خسرناها إلا أننا لم نخسر المعركة بعد، يمكن أن تكون مسيرة هذا البطل العظيم تجسيدًا صريحًا لها، وكما كان يقول "السقوط داخل الحلبة كالسقوط خارجها، لا عيب في أن تسقط أرضًا، بل العيب في أن تبقى على الأرض".

حديثي هنا عن  كاسيوس مارسيلوس كلاي جونيور، أو محمد على كلاي الاسم الذي أطلق عليه بعد اعتناقه الإسلام، والمولود في السابع عشر من يناير عام 1942 في مدينة لويفيل بولاية كنتاكي، وهي الفترة التي شهدت صراعات محتدمة بين البيض والسود، ليس مجرد حديث عن رياضي عظيم أو أشهر ملاكم أنجبته الحلبة الرياضية على مستوى العالم، فإنجازات الرجل في بطولات الوزن الثقيل وفوزه ثلاث مرات باللقب أعوام  1964 و1974 و1978 وحصوله على لقب "رياضي القرن" أكثر من مرة، ونجاحه في أن يكون صاحب أسرع وأقوى لكمة في العالم والـ56 انتصارًا من إجمالي 61 مباراة لعبها وضرباته القاضية التي لم يفلت منها أعتى الملاكمين، وأبرزهم جورج فورمان، وجو فريزر، وسوني ليستون، الذي انتزع عرش الملاكمة منه، وفاز عليه في مباراة تاريخية عام 1964، وهي المباراة التي أعلن فيها اعتناقه الإسلام على مرأى ومسمع من الجميع حتى اعتزاله عام 1981، أمر مفروغ منه أسهبت فيه الأوساط الرياضية وقتلته حديثًا مدحًا وفخرًا بهذا الرجل الرياضي الفريد.

شخصية محمد علي كلاي من أكثر الشخصيات إلهامًا في حد ذاتها، فها هو الأمريكي الأسود الذي عانى كثيرًا في مراهقته من الاضطهاد والعنصرية في أمريكا قبل إسلامه، ويحكي كلاي واقعة أثرت فيه وفي مسيرته بالكامل بأحد لقاءاته التليفزيونية، وهي واقعة "الهامبورجر" حينما دخل أحد المطاعم بولاية كنتاكي، وكان حينها حاصلا على الميدالية الذهبية في الألعاب الأولمبية، وطلب قطعتان من "الهامبورجر" وهو ما قوبل بالرفض من قبل مدير المطعم، موجهًا حديثه لمحمد علي قائلًا: "اخرج يا فتى لا نقدم طعامًا للزنوج" وهو ما طعن فرحته بالميدالية في مقتل، فلم يشعر بنفسه حينها إلا وهو يلقى بميداليته في نهر أوهايو، قائلًا في حزن: "الجائزة لم تمكني من أكل شطيرتي هامبورجر"، مؤكدًا: "نعم ألقيتها كنت جادًّا دائمًا" في أقسى صورة للعنصرية، وهو ما كان بمثابة شرارة من نار أصقلت الرجل الذي عاش طيلة حياته لا يخاف في الله لومة لائم مواجهًا أمريكا، والعالم بأجمعه في شجاعة افتقدها العالم الإسلامي اليوم.

 

 هذه العنصرية لم يخلص منها أيضًا بعد شهرته العالمية، وزادها اعتناقه الإسلام، وهى العنصرية التي واجهها من قبل "البيض" من الأمريكيين الذين وصفتهم المنظمة التي انتمى إليها محمد على في البدء بـ"الشياطين"، والتي كان من ضمن عقائدها أيَضًا أن الملاك "أسود" اللون والشيطان "أبيض"، وهي "حركة أمة الإسلام" التي أسست عام 1930 على يد رجل يدعى والاس فرد محمد، وتزعمها خلفه إليجا محمد، وكانت تعنى بالدفاع عن حقوق السود الأمريكيين المضطهدين، وهي الجماعة التي كان يتردد عليها محمد على سرًّا في مطلع الستينيات لحضور الدروس الدينية، وكان في عمر الـ22 عامًا تقريبًا، ودفعه إلى ذلك أيضًا صداقته بمالكوم إكس، وهو المتحدث الإعلامي باسم الحركة وهو في الأصل داعية إسلامي ومدافع عن حقوق الإنسان، واللذين اشتركا سويًّا في الدفاع عن حرية وحقوق الأفارقة في أمريكا، وانفصل مالكوم عن الحركة فيما بعد وقتل في النهاية على يد مجموعة من العنصريين البيض.

أطلق إليجا محمد زعيم الحركة على كلاي، اسم "محمد علي" الاسم الأول على اسم للنبي -صلى الله عليه وسلم- والاسم الثاني تبركًا بالإمام علي بن أبي طالب رابع الخلفاء الراشدين، إلا أن محمد علي في النهاية انفصل عنهم سريعًا بعدما اختلف كثيرًا مع أفكارهم التي كانت أقرب للتطرف والعنصرية هي الأخرى.

تصريحات ولقاءات الملاكم الراحل، جسدت على مدار السنوات الماضية الأزمة التي يعيشها الإسلام، ويعاني منها المسلمون في القرن الحالي، والتي تفحلت وتوحشت مع ظهور الجماعات المتطرفة التي تدعى إسلاميتها، وما هي إلا صناعة أمريكية تهدف في الأساس لتحقيق مصالح وأغراض سياسية وحماية الكيان الصهيوني بخلق تنظيمات وكيانات إرهابية تأخذ من الإسلام ستارًا لها على غير الحقيقة لتشويه صورته، وإعطاء ذريعة لمحاربة المسلمين، وهو الأمر الذي اتضح من رد الفعل الأمريكي الضعيف، والذي جاء دون المستوى لمواجهة هذا الكيانات الهلامية، إضافة إلى توفير البيئة الخصبة والحاضنة لظهور تلك الكيانات بدءًا من ظهور أسطورة بن لادن، وغزو العراق، وانتهاء بما يحدث في سوريا، وخلق الفتنة بين السنة والشيعة.

الحديث عن محمد علي كلاي، يمكن أن يأخذنا لقضايا لا تحصى، تتعدى الأهمية الرياضية إلى الإشكاليات السياسية والدينية، فنزعته الإيمانية ودفاعه عن الإسلام والمسلمين وفخره بانتمائه لأمة محمد كان جليًّا وعظيمًا، فاستطاع أن يجبر الجميع على احترامه واحترام الديانة التي أنار الله بها بصيرته، وللبطل الراحل الكثير والكثير من التصريحات واللقاءات التي تعدت فيها بلاغته أشهر الشعراء والفلاسفة، فها هو يقر في لقاء تليفزيوني له - وما أكثرها - حينما سأله المذيع: إلى من تدين بالفضل في عملك؟، فكان رده: "أدين بالفضل في عملي إلى الله وفي كل شيء إلى الله ونجاحاتي وحمايتي وشجاعتي وانتصاراتي أنا مدين إلى الله"، وفي حديث آخر حينما سأله المذيع ألا تخاف من القتل، فقال له: "في القرآن الكريم قال الله لا تأتي نفس إلى الدنيا إلا بمشيئة الله ولا تغادر نفس الدنيا إلا بمشيئة الله، وعندما سأله ألديك حارس شخصي عد على أصابع يديه ساخرًا مرددًا: "1234567 ، ثم قال حارس واحد، هو يرى بلا عيون ويسمع بلا أذن، يتذكر كل شيء دون مساعدة عقل أو ذاكرة، تعالى أن ينطق رسالاته باللسان أو بصوت يسمع، وإذا أراد شيئًا يقول له كن فيكون، عليم بذات الصدور، هو الله، هو من يحرسني ويحرسك هو المتعال".

"إسلام" كلاي لم يكن مجرد خطابات بلاغية وفصاحة لسانية، إنما تعدت ذلك لفعل على أرض الواقع ببناء مسجد في شيكاغو، وتخصيصه دخلًا سنويًّا بما يقرب من 200 مليون دولار للأعمال الخيرية ولخدمة الإسلام، الذي قال عنه " إن اتجاهي نحو الإسلام كان أمرًا طبيعيًّا يتفق مع الفطرة، وقد استغرق رجوعي إلى فطرة الحق سنوات من التفكير الممعن، حين اصطحبني صديق مسلم إلى المسجد لأسمع شرحًا عن الإسلام، إذ أحسست وأنا أنصت للشيخ بنداء الحقيقة ينبعث في داخلي"، وهو الأمر الذي اعترف به الرئيس الأمريكي باراك أوباما في نعيه للبطل الراحل، بقوله: "إن علي لم يتوقف أبدًا عن استخدام شهرته من أجل الخير، وهو الرجل الذي ساعد في تأمين الإفراج عن 14 رهينة أمريكية من العراق في عام 1990، وسافر إلى أفغانستان لمساعدة المدارس المتضررة كرسول سلام للأمم المتحدة، وكان يزور الأطفال المرضى ذوي الإعاقة في جميع أنحاء العالم".

المواقف كثيرة ولا تحصى، ولعل أشهرها رفضه وضع اسمه على أرض هوليوود وهو أعلى تكريم يمكن أن تمنح للشخصيات المرموقة، وهو ما رفضه وأجبر الجميع بإيمانه الحقيقي، أن يكون الوحيد الذى يوضع اسمه على الحائط ودفاعه عن القضية الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى الموقف الأعظم برفضه الاشتراك في حرب فيتنام عام 1966 لأنها ضد تعاليم القرآن، وحرمانه من رخصة مزاولة النشاط الرياضي جزاء له على رفضه أن يكون فردًا في الجيش الأمريكي المحارب هناك، حينما قالها في المحكمة عالية: "مشاعري لا تسمح لي بالذهاب لقتل إخوتي حيث الأشخاص الفقراء الغارقين في الوحل من أجل أمريكا القوية والكبيرة.. لماذا أقتلهم؟ لم يقولوا لي يومًا زنجي، ولم يسحلوني، ولم يفلتوا علىّ الكلاب، كيف يمكنني أن أقتل هؤلاء الأشخاص الفقراء؟ ضعوني في السجن"، وغيرها من المواقف المشرفة والعظيمة.

وفي النهاية لم أجد أفضل من رثاء لاعب فريق روما والمنتخب محمد صلاح، للملاكم الكبير أختم به هذا الوداع الخاص، "سوف نستمر لفترة طويلة قادمة لمعرفة من أنت محمد علي.. ارقد في سلام".