معاوية بن أبى سفيان.. مُدمر الخلافة

قد يكون العنوان به من الصدمة ما يدفعك سيدى القارئ إلى الإحجام عن القراءة، أو قد تتخذ قراراً أكثر حكمة بالاستمرار والتجول بين سطور المقال على مهل وتريث؛ ربما تجد فيه ما يفيد أو ما يثبت هذا العنوان أو حتى قد تجد فيه من ضعف الحجة ما يدفعك لأن تقيم حجة أعمق فى أصلها وأثقل فى نمطها، لا يود الكاتب إلا أن يستهل الكلام بما فعله «معاوية» مع محامى الفقراء «أبوذر الغفارى» وهو الذى قال عنه محمد (ص): «مَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ وَلاَ أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ مِنْ أَبِى ذَرٍّ، رحم الله أبا ذَرّ يمشى وحده ويموت وحده ويبعث وحده».

وليس المقصد هنا سرداً لسيرة أبى ذَر الغفارى، وإنما تبيان الحقيقة وإزاحة ستار من القداسة الزائفة حول أول ملوك الإسلام، الذى لم يكن خليفة لأحد بل أول من شرعن للديكتاتورية فى دولة ما بعد الخلافة الراشدة؛ معاوية بن هند بنت عتبة، آكلة كبد حمزة بن عبدالمطلب، وابن أبى سفيان بن حرب ممنهج قتل الرسول الذى لم يسلم إلا عند فتح مكة.

فعندما ضاق «عثمان بن عفان» بأبى ذَر الغفارى طلب منه الخروج إلى الشام ويعيش تحت ولاية معاوية، وعند وصوله الشام صار ينتقد معاوية أشد الانتقاد لجمعه المال وبناء القصور الفارهة، فانتقده بشكل كبير لبناء قصر الخضراء وقال: «إن كنت بنيتها من مال المسلمين فهى الخيانة، وإن كنت بنيتها من مالك فهذا إسراف»، وكان يقول: «ويلٌ للأغنياء من الفقراء» ويكررها فى إصرار وصدق حتى أصبح الناس يسمعون له ويتجمعون حوله، فخاف «معاوية» من أن ينقلب أهل الشام عليه فكتب إلى «عثمان» يشكو له أبا ذر، فأمر «عثمان» بأن يجلبوا له أبا ذر إلى المدينة، فلما بلغ المدينة أصبح يقول «وبشر الأغنياء بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم». وحتى أصبح وكأنه يطعن بعثمان فضاق به عثمان مرة أخرى فنفاه خارج المدينة إلى الربذة فمات هناك غريباً وحيداً حتى عجزت زوجته عن دفنه، لولا مرور حجاج من أهل العراق بالصدفة.

أما وأن الكاتب يريد إلقاء المزيد من الضوء حول «معاوية» فتجِب العودة إلى عام ٣٧ هجرياً، حين حاول الإمام على رضى الله عنه وأرضاه أن يقيم الحجّة على معاوية والى الشام وأصحابه بأسلوب الحوار والموعظة الحسنة كما عهده من عاصروه، وذلك حقناً لدماء المسلمين ووأد الفتنة التى ولدت مع اغتيال عثمان بن عفان، ولكن تلك المحاولات لم تجد آذاناً صاغية عند معاوية الطامع فى الحكم بمنطق نفعى محض فى مواجهة «على» الذى لا يجسد إلا الأريحية بحد ذاتها، لذا بعد انتصاره على الناكثين فى موقعة «الجمل» بالبصرة، بدأ بتعزيز جيشه للتوجّه إلى الشام لتصفية الفئة الباغية التى يرأسها معاوية بن أبى سفيان، فبدأت المعركة فى أرض بين الشام والعراق اسمها «صفّين» وكان ذلك فى الأوّل من صفر 37هـ، وكان الإمام «على» بخلقه الرفيع المعروف عنه قد سعى لإصلاح الموقف بالوسائل السلمية، فبعث أوّلاً بوفد ثلاثى إلى معاوية يذكّره الله، ويدعوه إلى التقوى والورع، فكان جواب معاوية: ليس عندى إلاّ السيف، فدعاه الإمام فيما بعد إلى المبارزة، حقناً لدماء الآخرين، إلا أن معاوية الذى لا يريد إلا ملكاً عضوداً، رفض المواجهة خشية على نفسه من بطشة على بن أبى طالب وآثر الحرب على السلام، وفضل إراقة دم المسلمين على إراقة دمه هو!

ولما جاءت ليلة الهرير، وقد كان البرد فيها قارساً إلى الحدّ الذى كان يسمع للجنود هرير، وبالإضافة إلى البرد فى هذه الليلة فقد اشتدّ القتال بين الجيشين وقد كان مالك الأشتر قائداً لجند «علىّ» ويضرب ضرباته بكل قوة حتى اخترق صفوف أهل الشام، وأجرى حولهم عمليات الالتفاف والتطويق، فانكشفت غالب صفوفهم، وكادوا ينهزمون، حتى وصل «الأشتر» إلى قرب موقع معاوية وفسطاطه فلمّا رأى معاوية بن أبى سفيان انتصارات جيش الإمام علىّ بن أبى طالب، دعا عمرو بن العاص والى مصر إلى خطة للوقوف أمام هذه الانتصارات، فقام عمرو بن العاص بخدعة، حيث دعا جيش معاوية إلى رفع المصاحف على أسنّة الرماح، ومعنى ذلك أن القرآن حكم بيننا، وأراد من ذلك أن يخدع أصحاب الإمام على رضى الله عنه للكف عن القتال ويدعون على ابن ابى طالب إلى حكم القرآن.. وفعلاً جاء زهاء عشرين ألف مقاتل من جيش علىّ حاملين سيوفهم على عواتقهم، وقد اسودّت جباههم من السجود، يتقدّمهم عصابة من القرّاء الذين صاروا خوارج فيما بعد، فنادوه باسمه لا بإمرة المؤمنين: يا على، أجب القوم إلى كتاب الله إذا دُعيت، وإلاّ قتلناك كما قتلنا ابن عفّان، فو الله لنفعلنّها إن لم تجبهم.

فرد على رضى الله عنه: (عباد الله، إنى أحقّ من أجاب إلى كتاب الله، ولكن معاوية وعمرو بن العاص وابن أبى معيط ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، وإنّى أعرف بهم منكم، صحبتهم أطفالاً وصحبتهم رجالاً، فكانوا شرّ الأطفال وشرّ الرجال، إنّها كلمة حقّ يُراد بها باطل، إنهم والله ما رفعوها، إنّهم يعرفونها ولا يعملون بها، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيرونى سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة، فقد بلغ الحقّ مقطعه، ولم يبق إلاّ أن يقطع دابر الذين ظلموا).

إلا أنه لمس منهم ململة فقال لهم: (ويحكم أنا أوّل مَن دعا إلى كتاب الله، وأوّل مَن أجاب إليه...).

قالوا: فابعث إلى الأشتر ليأتيك، وقد كان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله، فأصرّوا على رأيهم، وكان أمير المؤمنين رضى الله عنه فى هذا الموقف أمام خيارين لا ثالث لهما:

1ـ المضى بالقتال، ومعنى ذلك أنّه سيقاتل نصف جيشه وجيش معاوية.

2ـ القبول بالتحكيم وهو أقل الشرّين خطراً.

وهكذا كان القبول بالتحكيم نتيجة حتمية لظروف قاهرة لا خيار لأمير المؤمنين.

وقام أحد رجال معاوية منادياً بين الجيشين: الله الله فى دمائنا ودمائكم المتبقية، بيننا وبينكم كتاب الله، فقام المتآمرون مع معاوية فى جيش الإمام بزعامة الأشعث بن قيس مع الذين انطوت عليهم الخدعة، لا سيما ذوى القلوب الضعيفة والذين ملوا القتال، بمطالبة علىّ بضرورة وقف الحرب قائلين: (قد أعطاك معاوية الحق، ودعاك إلى كتاب الله، فاقبل منه).

وبهذا انشق جيش الإمام إلى شقين، وفشلت كل محاولات الإمام بإقناعهم بزيف لعبة المصاحف، مما اضطره إلى قبول التحكيم. وقام الأشعث بن قيس وهو الذى ترأس حركة المؤيدين للتحكيم فى جيش الإمام، بترشيح أبى موسى الأشعرى ليكون ممثلاً عن معسكر الإمام فى مفاوضات التحكيم، ولكن الإمام عارض ذلك قائلاً: «إن موسى ضعيف عن عمرو (وهو ممثل معسكر الأمويين) ومكائده.. وإنه ليس بثقة، وقد فارقنى وخذل الناس عنى يوم الجمل»، وكان الإمام أيضاً قد عزله قبل ذلك عن ولاية الكوفة بعد تسلمه مهام الخلافة. ومع إصرار «الأشعث» وجماعته عليه، ورفضهم رأى الإمام بإسناد مهمة تمثيل معسكر الإمام فى التفاوض إلى عبدالله بن عباس أو مالك الأشتر، لم يجد الإمام مناصاً من القبول واحتساب الأمر إلى الله قائلاً: فاصنعوا ما أردتم. ثم وقّع الفريقان وثيقة التحكيم الأولية تعهدا فيها بالتوقف عن القتال لغاية ظهور نتيجة التحكيم. وقد اجتمع الحكمان بعد هذه الموقعة بثمانية شهور فى دومة الجندل ومع كل منهما أربعمائة من صحبه. وبعد أيام من المفاوضات قبل عمرو بن العاص اقتراح أبى موسى الأشعرى بخلع كل من على ومعاوية، وتعيين عبدالله بن عمر -الذى لم يكن حاضراً آنذاك- إماماً للأمة بدلاً منهما، ثم قاما ليعلنا للحضور نتيجة التحكيم، فبدأ أبوموسى الأشعرى، وهو صهر عبدالله بن عمر قائلاً: (إن هذه الفتنة قد أكلت العرب، وإنى رأيت وعمرو أن نخلع علياً ومعاوية، ونجعلها لعبدالله بن عمر، فإنه لم يبسط فى هذه الحرب يداً ولا لساناً). ثم قام ابن العاص خاطباً: (أيها الناس، هذا أبوموسى شيخ المسلمين، وحكم أهل العراق، ومن لا يبيع الدين بالدنيا، قد خلع علياً وأنا أثبت معاوية)، فاختلط الناس، وعمت الفوضى، وتشاتم الحكمان بأخس الكلمات. ثم انصرف «عمرو» ومن معه إلى معاوية بالشام، ولحق أبوموسى بمكة، ورجع من كان بصحبته إلى الكوفة.

من هنا يظهر الفارق بين «على» كخليفة راشد وبين «معاوية» كملك من ملوك الدنيا وسلاطينها، فهذا هو معاوية لا يتردد فى إشعال الفتنة الكبرى طلباً للحكم وأمور الدنيا بل ويبذل ما يستطيع فى سبيل ضم من تطهرت قلوبهم وطمست أبصارهم وتبلد منهم صوت العقل، فهكذا كان قميص عثمان مثالاً لدعوة حق أريد بها باطل، إذ مكنت معاوية والأمويين من التمسك بالحكم، وكيف لا وقد كان الخليفة المغدور منهم، ومن ثم الانفراد بالحكم بعد ذلك، جاعلين منه ملكاً عضوضاً بعد أن كان شورى واختياراً دُولة بين من له العقل والحكمة.

فمن أراد منكم أن يكون معاوية أبا يزيد، فهذا أمره وسيعيننا الله عليه.

ومن أراد منكم أن يكون علياً أبا الحسين، فخير له وسيعيننا الله له.