«سوق الإشارة»: هتاف الصامتين لبيع الخضر والفاكهة

كتب: شيرين أشرف

«سوق الإشارة»: هتاف الصامتين لبيع الخضر والفاكهة

«سوق الإشارة»: هتاف الصامتين لبيع الخضر والفاكهة

هدوء نسبى يسود أرجاء المكان، رغم امتلائه عن آخره بالزبائن والباعة، لكن لا صوت يدل على كونها سوقاً، اللهم إلا القليل من «خروّشة» الأكياس البلاستيكية، وطرقعة المكيال على الميزان، فلا صوت لبشرى واحد، فقط شفاه تتحرّك، تنقل حواراً صامتاً بين البائع والمشترى، تتحول مع الوقت إلى آلية التواصل الوحيدة فى السوق الغريبة، ومن يفشل فى التواصل فعليه بالمترجم، الوظيفة التى وجدت لنفسها طريقاً بين عدد ضخم من متحدى الإعاقة السمعية والبصرية، كانوا موجودين بمحض الصدفة فى سوق شعبية. كفيف وأصم وضعيف سمع.. 3 نماذج اجتمعت فى المكان نفسه، أكمل بعضهم الآخر، وكانت «الإشارة» هى القاسم المشترك بين ثلاثتهم فى التعامل مع زبائن سوق «الإشارات» بمنطقة المطرية، اللقب الذى اكتسبه المكان على لسان المترددين عليه، فلم يعد أحد يتذكّر اسمه الحقيقى «سوق السبت»، بعدما طغى عليه متحدو الإعاقة، ليكسبوا مع الوقت تعاطف الزبون، وتتحوّل سوقهم إلى مكان نموذجى لراغبى الشراء فى هدوء دون شجار أو تجاوز من بائع. حكايات متنوعة تسردها «الوطن» بإشارات أصحابها فى رحلة البحث عن الرزق «من غير ولا كلمة»، والمعوقات التى تحدوها دون الحاجة إلى شهادة الـ5% معاقين، التى يحملها كثيرون من ذوى الاحتياجات الخاصة للبحث عن وظيفة حكومية، فى الوقت الذى قرر فيه كل واحد منهم «شق طريقه» بمفرده لإثبات ذاته، وتأكيد أن المعاقين ليسوا «درجة تانية» إلا فى عقول البعض، لكن فى واقعهم هم «أسياد أنفسهم».

{long_qoute_1}

ممرات ضيقة، على جانبيها يستقر الباعة، كلٌّ خلف فرشة أو عربة تحمل الخضراوات والفاكهة، لا يرفع أحدهم لوحة تسعيرية، ولا ينادى على زبون، يقف كل منهم فى همة، يرتب فرشته، يعطى لنفسه إحساساً دائماً بالحركة، حتى يأتيه زبونه، الذى اعتاده طوال 12 عاماً، وبنظرية «زبون بيجيب زبون» ازدحمت السوق عن آخرها، باعة لم تتغير سلوكياتهم، وزبائن اكتسبوا ثقافة المكان، فحلت الإشارة محل الكلمات، سواء فى طلب السلعة، وحتى الفصال فى سعرها.

على فرشة طماطم وخس وخيار وقف الزبون، يشير بأحد أصابعه إلى الطماطم، إشارة أخرى مفادها «بكام؟».. يفهمها البائع مباشرة فيجيب إشارة وبلغة الشفاه «3 جنيه»، فيطلب من البائع بالإشارة أيضاً 5 كيلوجرامات، وباليد الأخرى يشير إلى أن «الكيلو بـ2.5 فى كل حتة»، يومئ البائع برأسه موافقة، لتنتهى عملية الشراء فى دقائق.. آلية متبعة ومتكررة تقريباً على كل عربات الخضار والفاكهة فى السوق. {left_qoute_1}

بممر ضيق تجلس على جانبه بديعة صبيح عبدالواحد، المرأة السبعينية التى استقرت على قفص خشبى فى السوق منذ عام 1965، تعلق فى رقبتها بطاقتها الشخصية، كلما سألها أحدهم عن اسمها، تقدم له هويتها، خشية أن تشرح اسمها بالإشارة فلا يفهمه أحدهم، فى البداية خرجت «بديعة» للعمل فى السوق على فرشة الخضار والفاكهة مع والدها لتحمل مسئولية البيت بعد فراق والدتها، والإنفاق على شقيقتها الأصغر، رغم أنها مولودة بإعاقة حرمتها من السمع والكلام، فإنها تعايشت مع الأمر وساعدها فى البداية والدها، لذا فهى بالنسبة لباقى بائعى السوق «من مؤسسيه»، يعلم حكايتها الجميع، ويفهمونها بلغة الإشارة التى أجادتها، وأجادت معها بحكم الممارسة لغة الشفاه، التى يستخدمها زبائنها معها، تستخدمها فى رواية قصتها: «بقالى 49 سنة فى نفس المكان، وماكانش فيه غيرى فى السوق مابيسمعش ولا بيتكلم، الوحيدة فى وسط البياعين وقتها اللى بابيع للزباين بالإشارات، لما كان أبويا يتعب وماينزلش على الفرشة، دلوقتى السوق اتملا، وبقينا أكتر من الهم على القلب».

ابتسامة صافية تغادر محياها من آن إلى آخر، لكنها أيضاً صامتة، لم يؤرقها الصمت كثيراً، تعلمت على يدى والدها أن الكلام نعمة ونقمة فى آن واحد، وأن الصمت يعفى البائع من الخطأ، ويخلق علاقة ود مع الزبون، ويُثير تعاطفه واندهاشه، تحكى بحماسة، مستخدمة شفتيها وأصابعها بالإشارة، التى تعلمتها فى السوق «أول 3 سنين، أبويا كان معايا وساندنى، وبعدها مات وسابنى لوحدى، فكملت على اللى علمهولى، ووقفت لوحدى وربنا كرمنى».. منذ أن كان عمرها 16 عاماً وحتى بلغت الـ72، لم تغادر «بديعة» موقعها، تزوجت وأنجبت بناتها الست، ومارست عملها وسط دعم من أغلب باعة السوق وقتها: «كنت فى الأول لوحدى، فساعدونى كتير، كفاية إنهم ماكانوش بيحاربونى، ومن 12 سنة بس بدأ السوق يبقى لينا، واحد يجر واحد عن طريق المعارف والقرايب، وبقينا الأكتر فى السوق، بس أنا أقدم واحدة فيهم، كلنا بقينا نلم بعضنا علشان عندنا حلم واحد، إن يبقى فيه سوق يضم عدد كبير من الصم والبكم شغالين وسط الناس العادية، وبيبيعوا ويشتروا عادى زيهم، ونثبت وجودنا وإن مفيش حاجة هتوقفنا عن الشغل ولا أكل عيشنا فى وسط الناس، لحد ما السوق اتغير اسمه، والناس بقت تسميه سوق الإشارات، بعد ما كان طول عمره اسمه سوق السبت».

{long_qoute_2}

الأزمة التى تعانيها السيدة العجوز أثناء وقفتها داخل السوق وبيعها للزبائن بطريقتها الخاصة، هى «بطش البلدية»، التى لا ترحم الضيف، حسب وصفها. جسدها ضئيل بعظام هشة، إعاقة وسن متقدمة، كلها أشياء تشكل جزءاً من حالتها المميزة وسط السوق، فالمارة ينظرون إليها بشفقة ويوجهون إليها مساعداتهم، تارة بالشراء دون فصال وإرهاق، وأخرى بالعطف عليها دون الشراء، لا يعلم أحدهم أن ابنتها الوسطى تجلس على بعد خطوات منها، بائعة فى السوق نفسها، اختارت المكان لتراعى والدتها وتساعدها فى تكاليف الحياة، ورغم إلحاحها عليها بالجلوس فى المنزل، فإنها ترفض وتصر على الخروج يومياً للعمل، حسب «بديعة»، فتقول مشيرة بيدها بلغة الإشارة: «مشكلتى الوحيدة فى السوق البلدية اللى بتيجى تشيل الفرشة اللى حيلتى، لا بيراعوا إنى ست كبيرة، ولا إنى مبتكلمش ولا بسمع، مش كفاية إنى بدفع فلوس لصاحب المحل اللى بقف قدامه، وبشتغل بعرقى ومابمدش إيدى لحد».

تفهم «بديعة» جيداً طلبات زبائنها، وتفهمهم أكثر حين يحاولون فصالها فى الأسعار، تبتسم وهى تشير «هو حد ممكن مايعرفش لغة الفلوس، دى تنطّق الأخرس»، لا يقطع استرسالها فى الحكى بكل تعبيرات الوجه والجسد سوى مرور زبون، ترحب به بابتسامة تكفى لجذبه، وتُعيره كل انتباهها حتى يغادرها مبتسماً، تعلق بالإشارة أيضاً: «الزبون لو مشى زعلان أو مش مرضى مرة، مش هييجى تانى، وأنا ماحيلتيش حاجة أبيع بيها غير الضحكة الحلوة، وربنا يكفينى شر البلدية». {left_qoute_2}

يشبهان بعضهما كثيراً، تشاركا فى فرشة واحدة وهموم واحدة، لا فارق بينهما سوى السن ودرجة العجز، كلٌّ منهما يفتقد شيئاً يستكمله من وجود الآخر فى حياته، هذا هو حال «حسن اليمانى» الرجل الخمسينى، وشقيقه «على» الأصغر منه بـ6 سنوات، الأول لا يسمع جيداً، ولا يتحدّث إلا بصعوبة بالغة، والثانى فقد النظر بعينه اليمنى تماماً، ولم يتبق له سوى بصيص من نور بعينه اليسرى، فلا عجب أن يصبح «على» هو صوت «حسن»، وتكون عينا «حسن» هما بصيرة «على».

على فرشة «صابون» وأدوات النظافة يعملان فى مهنة واحدة، يسند «على» إلى يد «حسن»، الذى لا تفارقه الابتسامة طوال وقفتهما، وأحياناً أخرى تخرج منه كلمة بصعوبة بالغة، لا يفهمها سوى شقيقه «على»، وعند وقوف الزبائن على فرشتهما، يقفان بجانب بعضهما، يسمع «على» طلب الزبون، ويُحضر «حسن» الطلب بعد توضيح «على» بالإشارة إليه.

«أنا باعتبر (على) ابنى اللى ماخلفتوش، لأنى متجوز وماعنديش عيال، ولا ليّا إخوات غيره، هو وَنَسى فى الحياة بعد ما أهلنا ماتوا، علمته الصبر، وهو علمنى الرضا، علمته إن مش معنى إنه بيشوف بالعافية مايشتغلش، لكن لازم يعتمد على نفسه ويثبت وجوده، وهو علمنى أحب كل الناس، وقرّرنا نقف على فرشة واحدة ونساعد بعض بالاجتهاد جوه السوق»، قالها «حسن» مستخدماً لغة الإشارة، مؤكداً أنه يتمنى أن يأتى اليوم الذى يتزوّج فيه «على» حتى يفرح به: «باخاف عليه جداً، وطول الوقت إحنا مع بعض فى السوق، بنسترزق ونبيع زى غيرنا، ومفيش حاجة تنقص مننا، والزباين عارفانا كويس، بعد ما واحد زميلنا مابيسمعش زيى قالنا على السوق من 5 سنين، ومن بعدها واقفين فيه وبقى لينا مكان نسترزق منه وسط الناس».

فارق السن بينهما ليس كبيراً، ورغم ذلك يسرح «حسن» مع نفسه كثيراً سائلاً إياها: «هل الحياة التى جمعتهما معاً من الممكن أن تفرقهما فى أحد الأيام؟»، يؤكد «حسن» أن شقيقه ضحية فقرهما وظروفهما الصعبة، ينفعل وهو يروى بلغة الشفاه، مستخدماً إشارة اليدين: «كان عنده ميه زرقا على عينه اليمين ومحتاج عملية وماعرفناش نعملها، ففقد بصره، وعينه التانية بيشوف بيها طشاش»، يقاطعه فى حديثه «على» مشيراً إليه، فيقول: «أخويا (حسن) من أطيب الناس اللى فى حياتى، وماليش غيره، ولولاه ماكنتش عرفت أعيش فى الدنيا، ولا كان يبقى ليّا فرشة أكسب منها، هو اللى شجعنى نقف فى السوق ونكمل بعض ونبيع للناس، وهو يبقى عينى وأنا أبقى سمعه».

{long_qoute_3}

تأتى الساعة العاشرة صباحاً ليبدأ ميعاد إفطارهما معاً، طبق الفول والطعمية كعادتهما: «إحنا بنفطر فول على طعمية، وفى الغدا بنغير، بنحط عليهم طماطم وخيار»، يبتسم «حسن» ليؤكد بالإشارة أنه راضٍ عن حياته تماماً، رغم كثرة مشكلاته: «الحمد لله على كل حاجة، إحنا أحسن من غيرنا بكتير، ورغم إن ربنا أراد وبقيت مابسمعش كويس، خلى أخويا هو ودنى وسمعى فى الحياة، ورزقنى بزوجة بتحبنى وباحبها، وفرشة بناكل منها وقادرين نعيش»، يضيف «على»: «إحنا ماعندناش مشكلة مع الزباين، لأن إحنا بنكمل بعض، والناس عارفة إنى أنا اللى باسمع طلباتهم من غير ما أشوفهم، وأشرحها لـ(حسن) بالإشارة، وهو اللى يحضّرها ويبيع ليهم».

يتمنى الشقيقان أن يقفا بفرشتهما فى السوق بالقانون، لا يتعرض أحدهما لإهانة من رجال الإشغالات، بسبب تعدى فرشتهما على الشارع، فيقول «على»: «احنا عارفين إن وقفتنا غلط، بس احنا زى غيرنا بنسترزق ومفيش مكان تانى نقف فيه، ونفسنا الحكومة تسمح لينا نقف فى نفس مكانا عشان مانبقاش بنتعدى على القانون، والبلدية ترحمنا وماتجيش تلم بضاعتنا كل شوية»، قرر «على وحسن» عدم الوقوف طوال الأسبوع إلا يوم السبت: «السوق موجود كل يوم، الناس بتقف فى أماكنها لكن كل المعاقين اللى زينا مابيقفوش إلا يوم السبت معانا، عشان البلدية مابتعديش كتير فى اليوم ده، لكن بقية الأيام بتعدى على طول وبنخسر البضاعة بتاعتنا، عشان كده متفقين مع أصدقائنا إننا مانقفش إلا السبت، وبقية الأسبوع بنلف فى الشوارع بس مابنبيعش كويس زى السوق، لأن زباينا عارفينا أكتر من الناس اللى فى الشارع.. حسى بينا يا حكومة».

طريقان كانا أمامه، الأول البقاء فى مكانه دون عمل، والاستسلام لعجزه عن السمع والكلام، والثانى هو الانطلاق إلى ما وقع فيه بتحدى إعاقته والخروج للعمل، على فرشة الخضار بسوق «الإشارة»، حيث التقى بمن يماثلونه فى إعاقته، اعتاد رضا محمد أبوالنمرس، أن يعيش حياة مليئة بالتحدى، فى السابق تحدى أهله فى المنيا ليتعلم القراءة والكتابة ويلتحق بالمدرسة، والآن تحدى أبناءه الذين يطالبونه بالتوقف عن البيع على فرشة الخضار، وفى كل مرة كان الثبات على موقفه والتمسك بالتحدى وإثبات نفسه هو الرد الوحيد.

حلم الرجل الستينى، ابن محافظة المنيا بأن يصير رجلاً له قيمة فى المجتمع، رغم الضغوط التى تعرّض لها فى حياته وظروف عجزه، نجح فى تحقيق حلمه بعد هجر المنيا والمجىء إلى القاهرة، يجد نفسه على فرشة الخضار، يروى بلغة الإشارة: «حياتى كلها عايشها بالتحدى، كان نفسى أكون حاجة، ومش معنى إنى معاق فى سمعى يبقى أقعد جنب أهلى وهما اللى يصرفوا عليّا، علشان كده قررت أمشى من المنيا وأشق طريقى، اشتغلت بياع خضار متجول، وعلى عربية فى الشوارع، من غير ما أطلع صوت ولا أنادى على اللى بابيعه زى البياعين، كنت باخسر فى الأول، لأن ماكنتش باعرف أتعامل مع الناس، لحد ما ربنا رزقنى وعرفت السوق ده من واحد زميلى بيعانى من نفس المشكلة، وواحد قريبى ضرير وبيبيع فراخ فى السوق وسط الناس».

سنوات عمره انقضت وهو يحاول رسم ابتسامة فوق شفاه الجميع، والتواصل مع الناس بلغة الإشارة، الأمر الذى ساعد عم «رضا» كثيراً فى التواصل مع زبائنه، فهو يعشق المرح والفكاهة: «أنا راجل عايش علشان أسعد الناس اللى حواليّا، مش معنى إنى عندى مشكلة فى سمعى ومش باعرف أتكلم أبقى مكشر والناس تتشاءم منى، فى السوق كل زباينى بيحبونى وبيحبوا ضحكتى، ودايماً يقولوا لى إنى مصدر سعادة ليهم رغم إنهم مابيسمعوش صوتى ولا باتكلم معاهم».

الحياة بالنسبة لـ«رضا» شيئان: ابتسامة جميلة يتمتع بها، وقوة وإرادة تحكى عن حياته، حتى عندما تقدّم به العمر وصار أبناؤه الصغار رجالاً لم يستسلم لإرادتهم، وظل يحارب حتى وصل إلى ما أراده: «اشتغلت وبقيت حاجة، اتعلمت الكتابة والقراءة، رغم إنى خرجت فى الإعدادية من المدرسة علشان ظروف أهلى الصعبة وقتها، وسافرت القاهرة علشان أثبت نفسى، وعرفت أتجوز وأصرف على عيالى، ودلوقتى ولادى بيقولوا لى ريّح نفسك وهما اللى يصرفوا على البيت بس أنا اللى رافض، وهافضل أشتغل لحد ما أموت، وبنزل كل يوم السوق بس مش بقف فى مكان معين عشان البلدية، لكن السبت ليّا مكان معين الناس عرفانى بيه».

لم يُفكر عم «رضا» فى مشكلة التواصل مع الزبائن كثيراً، كل ما يهمه هو إثبات نفسه وسط السوق، ورجوعه فى آخر اليوم برزق يساعده على شراء علاجه: «قليل قوى من الزباين هو اللى بيتريق علينا، لكن الغالبية فاهمين ظروفنا، وبالعكس بيساعدونا ويحبوا يشتروا مننا، لأننا مؤدبين ومحترمين، ومحدش طبعاً بيتجاوز فى حق زبون، وخضارى كله صابح ونضيف، بقالى ييجى 10 سنين فى السوق، ومن يومها وأنا فى مكانى ثابت وبابيع كويس فى وسط البياعين اللى بيقدروا ينادوا على بضاعتهم، رغم مرضى بفيروس سى».

قدمه تؤلمه، لكن جسد عم «رضا» النحيل يساعده على الحركة، وعيناه أيضاً تُتعبانه، عملية إزالة المياه البيضاء منها ضرورية، فقرّر زيادة عدد ساعات عمله من أجل الجراحة، وحتى لا تشعر أسرته بأن مصاريفهم تأثرت بمرضه: «علاج فيروس سى باقدر أصرفه من الحكومة، الحمد لله.. أوقات كتير باقدر أجيبه، لكن المشكلة الكبيرة فى عينى، علشان لو ماعملتهاش مش هاقدر أشوف تانى، وكفاية عليّا إنى ماباسمعش ولا باتكلم»، يصحح «رضا» لكثير من زبائنه ما فهموه عن إعاقته، يؤكد بالإشارة: «اتولدت طبيعى وباسمع، لكن أبويا ضربنى على ودنى اتطرشت من ساعتها، ونسيت الكلام».

اعتادت شراء احتياجات منزلها فى يوم واحد فى الأسبوع، لم تشغل بالها بالنزول يومياً لشراء متطلبات البيت من سوق «المطرية» أسفل منزلها، اختارت يوم السبت، لأنها ترى فيه يوماً نموذجياً لشرائها فى هدوء دون شجار أو تجاوز من بائع، كما اعتادت سامية مجاهد، أحد سكان سوق المطرية منذ 28 عاماً، وزبونة باعة «الإشارة»، فلا تشترى إلا منهم، بعد أن جاءوا السوق.

12 عاماً، لم تشتر السيدة الخمسينية إلا من فرشات «بديعة» والشقيقين «على» و«حسن» وعم «رضا»، وغيرهم من أصحاب الإعاقة بالسوق، فتقول «سامية»: «الشراء منهم أرحم من البياعين اللى بيتكلموا، بشترى كل اللى أنا عايزاه بسعر معقول، لا بيغلوا عليّا ولا بفضل أفاصل وأتعب قلبى، وناس محترمة جداً، كفاية إنهم تحدوا إعاقتهم وواقفين عشان يشتغلوا وبيصرفوا على نفسهم من غير شحاتة زى غيرهم»، تقف «سامية» على الفرشة الواحدة لتشترى احتياجاتها فى أقل من 5 دقائق، لم تتعد مدة شرائها 10 دقائق، إذ كان على الفرشة زبائن غيرها: «بشترى حاجة الأسبوع كلها فى يوم السبت، عشان منزلش فى أى يوم فى الأسبوع وهما مش موجودين، حتى الخضار بشتريه فى اليوم ده بس، ومابقفش كتير إلا لو كانت الفرشة زحمة، لأن الناس كلها بتحب تشترى منهم عن البياعين العادية اللى فى السوق، وبيفهمونا وبنفهمهم لأن كل اللى بينا أرقام وقليل قوى اللى بيفاصلهم».

«سامية» لم تعد الزبونة الوحيدة التى اعتادت الشراء من باعة «الإشارة».. عاطف محمود، أحد الزبائن الذى اعتاد الشراء منهم بسوق السبت، يحترمهم كثيراً، ويحرص على مساعدتهم بالشراء منهم: «الناس دى محتاجة اللى يقدرها، لأنهم ناس محترمة ومعاملتهم مفيش زيها، وبفضّل أشترى منهم من يوم ما بقوا يقفوا فى السوق، وكل سبت بدوّر عليهم لأنهم مش بيقفوا فى مكان ثابت، ولو مالقتهمش بشترى من بياعين السوق العاديين، لكن فى وجودهم مش بشترى إلا منهم»، يضيف الرجل الأربعينى: «أنا ساكن فى المطرية من زمان، وعلى طول باشترى من سوق المطرية، لكن بعد ما عرفت إنهم بيقفوا السبت بقيت أشترى أكتر الحاجات اللى محتاجها فى اليوم ده، عشان أكّسبهم، لأنهم ناس بتشتغل بالحلال ولازم نشجعهم، ويبقى ليهم مكان ثابت ويومياً عشان يسترزقوا منه، ومايفضلوش يلفوا على الشوارع بقية الأسبوع ويتبهدلوا، واحنا ندوّر عليهم».

بين هؤلاء الصامتين يبرز صوت، إنه الجندى المجهول فى السوق الغريبة، الرجل الذى اختار الاستفادة من إعاقات بائعى السوق، فهو لا يملك إلا صوته، الذى وظّفه فى خدمة حركة البيع والشراء فى السوق لمن يصعب عليه التواصل أو فهم لغة الإشارة، ليعيش زيدان محمد الشريف، على هذا الحال، يترجم الحوار بين البائع والزبون مقابل «اللى فيه النصيب»، مستعيناً بخبرته فى العمل كموظف بإحدى جمعيات الصم وضعاف السمع، مما أتاح له فرصة عمل إضافية، داخل سوق السبت بالمطرية: «بقالى 5 سنين فى السوق، لما عرفت إن معظم البياعين اللى فيه صم وبكم، وبدأت أشترى منهم ويعرفوا إنى بافهم لغة إشاراتهم وبيتكلموا معايا، ومن بعدها بقيت أقف فى السوق بعد ما أخلص شغل الجمعية، وأسترزق من البياعين اللى بيلجأوا ليّا لفك الإشارات بينهم وبين الزباين».

«جنيه واحد فقط».. الحد الأدنى الذى يأخذه الشاب الثلاثينى من البائعين مقابل الترجمة للزبائن، فالباعة يعرفون «زيدان» جيداً، ويعتبرونه لسانهم وأذنهم، فيقول: «حب وثقة البياعين فيّا دى من عند ربنا، علشان باحاول أوصل التفاهم بينهم وبين الزبون، لأن فيه بياعين مابيعرفوش يتعاملوا خالص مع زباينهم فى الفصال، وأنا اللى باقرب المسافات بينهم، وأوصل كلام كل واحد، لحد ما يتفقوا على سعر، والبياع يبيع، وقتها باخد اللى فيه النصيب من البياع، لكن مش أقل من جنيه».

تفاوت ما يتقاضاه «زيدان» من الباعة مقابل الترجمة يتوقف على المدة التى يستغرقها مع البائع والزبون أثناء الشراء: «لما الزبون يقف يشترى ويمشى على طول، غير لما يقفوا يفاصلوا قصاد بعض ويعطلونى جنبهم، علشان كده لو اتأخرت فى الترجمة علشان باترجم لأكتر من زبون على فرشة واحدة وأخدت وقت، باخد من البياع حوالى 3 أو 4 جنيه»، مضيفاً: «بيطلع ليّا كل سبت من الترجمة فى السوق للبائعين الصم والبكم، مش أقل من 200 جنيه، وآهى نواية تسند الزير ورزق ولادى، لأن عندى عيلين باصرف عليهم، واعتبرت الترجمة فى السوق بلغة الإشارات شغلانة فوق شغلانتى بالجمعية».

 

 

 

 


مواضيع متعلقة