موسم الحرائق.. العشوائية والفساد وجهان للعملة نفسها

حرائق الرويعى والحمزاوى لم تكشف عن حقائق لا نعرفها، لكنها فقط سلطت الضوء على ما نتجاهله ونتعامى عنه. مظاهر الفوضى والعشوائية فى مناطق وسط القاهرة التجارية تصدم عين الزائر من أول لحظة تطأ قدمه فيها المنطقة. الشوارع الضيقة ليست هى المشكلة، فشوارع المدن القديمة قدم القاهرة كلها تعرف هذه الظاهرة، ولكن المشكلة فى الطريقة التى نستخدم بها هذه الشوارع، فنحولها إلى تهديد لأرواح الناس وأموالهم، وهذا هو ما يميزنا فى مصر عن شعوب العالم المتحضرة.

العشوائية والفساد، كلاهما أصبح ملمحاً رئيسياً فى طريقة حياة المصريين المعاصرين، هما السبب وكلمة السر وراء الحرائق الأخيرة وما يستجد منها، فكثير من أحيائنا ومنشآتنا هى كوارث تنتظر الحدوث. فى كل مرة زرت فيها القاهرة الفاطمية، التى هى أجمل وأقدم جزء فى القاهرة، ورأيت أسلاك الكهرباء العارية فى كل مكان، ومناقد الفحم فى المقاهى، والبضائع القابلة للاشتعال مكدسة، انتابنى القلق على مصير كل هذا التراث الرائع لو اشتعل حريق فى أحد هذه الشوارع الضيقة.

العقل العشوائى الذى يقف وراء كل هذا تكمن وراءه نفس طماعة تسعى للربح والمزيد منه بأى وسيلة أو طريق. بعض العشوائيين فقراء يكافحون من أجل البقاء، ولكن العشوائية فى حياتنا غير مقصورة على هؤلاء. الطمع هو الدافع لمالك الأرض الذى يخططها مبانى، فلا يترك بين العمارات شوارع مناسبة الاتساع طمعاً فى كل متر مبانٍ إضافى يبيعه من أجل مزيد من الربح، ومثله مالك العمارة الذى يضيف إلى طوابقها طابقاً مخالفاً. التاجر وصاحب المقهى تتسع تجارته، ومعها يتوسع محله إلى الشارع، يضع يده عليه من أجل المزيد من الربح. مالك العمارة السكنية يقرر تأجير شققها -والجراج إن وجد- مخازن لأصحاب المحلات القريبة، والتاجر يخزن بضاعته فى شقة قريبة توفيراً لتكلفة النقل، كل هؤلاء لا يسعون إلا وراء المال، ويعتبرون ما يفعلونه حلالاً رغم ما فيه من ضرر بالغ.

العقل العشوائى وراءه نفس أنانية لا تكترث للآخرين. تحويل الرصيف والشارع إلى امتداد للمحل والمقهى فيه اعتداء على حق الجيران والمشاة. احتلال الرصيف لبيع بضاعة مماثلة لبضاعة يعرضها محل مجاور فيه اعتداء على حق تاجر يتحمل تكلفة الإيجار والمرافق والضرائب. تحويل شقق الدور الأرضى إلى محلات تجارية فيه اعتداء على حقوق مواطنين اختاروا السكن فى منطقة سكنية هادئة ليجدوها تتحول بعد قليل إلى منطقة تجارية صاخبة.

العقل العشوائى اتكالى يرفض التدبر والتحسب تحت شعار «خليها على الله». لو حدث ولفتّ نظر أحدهم إلى مخاطر توصيلات الكهرباء العشوائية وإشغال الطريق وغياب إجراءات السلامة ومخاطر القذارة فى محال تقديم الأطعمة لاعتبرك «بتفوّل» عليه. لو لفتّ نظر سائق إلى حمولة زائدة أو أطوال بارزة أو طريقة القيادة العشوائية الخطرة التى يقود بها سيارته لاعتبرك «محبّكها» ولرد عليك «ربنا بيستر».

لم تكن كل هذه العشوائية لتنتشر فى مدن مصر لولا ضعف الدولة وفساد جهازها الإدارى. لدينا قوانين تحدد اشتراطات البناء واتساع الشوارع وقواعد السلامة والصحة العامة وتمنع إشغال الطريق، ولو لم تكن الدولة ضعيفة وكان جهازها الإدارى فاسداً لما تم انتهاك هذه القوانين لعقود طويلة. الكارثة بدأت بعد هزيمة 1967 التى كسرت هيبة الدولة، فقرر الحكام «ترييح الشعب»، والتغاضى عن تطبيق القانون، بعد أن فقدت الدولة المهزومة الهيبة الضرورية لإعمال القانون وتطبيق معايير المصلحة العامة. استحكمت الأزمة المالية للدولة بسبب تكلفة الحرب وعطب السياسات، وزادت تطلعات الناس للاستهلاك مع مجىء أموال النفط، «فخصخص» الموظفون مناصبهم، وحولوها إلى أداة «للاسترزاق» والابتزاز بعد أن عجزت الدولة عن دفع رواتب مناسبة لهم، ناهيك عن متطلبات مجاراة نزعات الاستهلاك التى انتشرت فى المجتمع «انتشار النار فى الرويعى».

لكل صاحب عمارة أو مكتب أو متجر أو مقهى أو مصنع فى هذا البلد حكايات كثيرة يحكيها عن ابتزاز موظفى المحليات والجهات الحكومية المختصة. الضحايا فى حريق الرويعى تحدثوا عن رشاوى يدفعونها لموظفى الدفاع المدنى والمرافق للتغاضى عن مخالفات جسيمة تهدد الصحة والممتلكات والأرواح. مفتشو الدفاع المدنى يرتشون للتغاضى عن غياب إجراءات السلامة، وعند وقوع الكارثة واشتعال الحريق يأتى زملاء لهم بعربات الإطفاء، مضحين بسلامتهم وحياتهم لإنقاذ الناس من نتيجة جرائم ارتكبها آخرون من زملائهم. موظفو الأحياء والتنظيم والمرافق يخرجون فى حملات شكلية لإزالة الإشغالات وإزالة التعديات، لكنهم فى حقيقة الأمر يريدون للمخالفات أن تستمر وتتكاثر لتفتح لهم المزيد من أبواب الفساد والرزق الحرام.

الموظفون الفاسدون لديهم «بجاحة» ووجوه مكشوفة لدرجة صادمة. خلال عقود حياتى الستة شاهدت بعينى رأسى دار السلام واسطبل عنتر والعمرانية وبولاق الدكرور وإمبابة وعين شمس والمطرية وشبرا الخيمة وهى تبنى بيتاً بعد آخر فى مخالفة صريحة للقوانين، ورأيت مناطق مخصصة للزارعة تتحول إلى منتجعات ومدن سكنية مغلقة على أصحابها، لكن موظفى الحكومة لم يشاهدوا شيئاً من كل هذا. كاذبون. لقد شاهدوا كل مخالفة، وقبضوا ثمنها، وحتى حين لم تكن هناك مخالفة افتعلها الموظفون، وابتزوا المواطنين المغلوبين على أمرهم.

القوانين فى بلاد الدنيا تصدر لتحسين حياة الناس وحل مشكلاتهم، أما عندنا فكل قانون أو إجراء تنظيمى جديد هو فرصة إضافية لموظفى الحكومة لإخضاع المواطنين لمزيد من الابتزاز، وكل زيادة فى الغرامات والعقوبات هى فرصة جديدة لرفع قيمة الرشوة. الأمل محدود فى الإصلاح والتقدم مع جهاز إدارى هذا حاله، وما لم نشرع فوراً فى إصلاح الإدارة الحكومية فكل ما يبنيه الرئيس والحكومة من مشروعات مهدد بالضياع كسابقه.