تونسيات تصنعن من الطين أملا يواجهن به صعاب الحياة

كتب: الوطن

تونسيات تصنعن من الطين أملا يواجهن به صعاب الحياة

تونسيات تصنعن من الطين أملا يواجهن به صعاب الحياة

كلّ العالم تغّير من حوْلِهنّ، تطّورت الحياة وأصبح الإنسان يعتمد على وسائل متطورة في عيشه، إلّا أنّ نساء قرية "الرواشد" من معتمديّة "بلخير"، التّابعة لولاية "قفصة" بالجنوب التُّونسي، تشبّثن بمهنةٍ تربّين عليها منذ نعومة أظافرهن، وورثن أصولها، وحفظن تقنياتها البسيطة من أمهاتهن، وجدّاتهن، المتمثلّة في "تمليس" صناعة الأواني المنزليّة من الطّين.

"زينة مولدي" إمرأة تجاوزت السّتّين من عمرها، حدّثتنا عن حبّها وشغفها بمهنة صناعة الأواني الطّينيّة، التّي بدأتها منذ بلوغها سن الـ 12 عاما، وها هي اليوم تتفانى فيها، ولم تهجرها على الرّغم من وضعها الصحي المتردّي أحيانا، وكبر سنها.

وتقول "زينة" في حديثٍ لـ"الأناضول"، "نجلب الطّين من الجبال القريبة التي تتميز بتربتها المناسبة لحرفتنا، وندقه، ومن ثم نُغَربله ليصبح كَالدّقيق، ونبلله فيما بعد ونتركه ليرتاح ليلة كاملة، وصبيحة اليوم التالي تصبح العجينة أكثر تماسكا، وقابلة للتّشكيل، فيكون بإمكاننا حينها أن نصنع منها الأواني المنزلّية، اعتمادا على اليدين بشكل أساسي، وقطعة فخارية دائرية مسطحة يوضع عليها الطين أثناء تشكيله".

وتتابع "زينة ": في مرحلة أخرى يتم تجفيفها (الأواني) لبضع الوقت قبل أن تُحرق، وهي عملّية تهدف إلى جعل الآنية متماسكة أكثر وقابلة للطبخ والاستعمال". ومن أكثر الأواني الفخارية التي يتم تشكيلها، "كانون (يوضع فيه الفحم ويستعمل لطبخ الشاي بطريقة تقليدّية)، وطاجين (يعتمد لصناعة الخبز)، وقدر، وأواني لطبخ الشاي"، بحسب "زينة".

وفي مكان قريب من الحاجّة "زينة"، جلست "عيدّية" قريبتها ورفيقة دربها في هذه المهنة التّي تصفها بـ"الشّاقة"، وتقول لـ"الأناضول" "مَن لم تتعلّم أو انقطعت عن دراستها، تكون وجهتها الجبل، لترث مهنة جدّاتها، لكن باقي الفتيات اليوم، وخاصّة من يزاولن دراستهن منهن، لا يرغبن هذه المهنة ولا يُقبلن عليها.

وترى المرأة الخمسينية "عيديّة" أن مهنة صناعة الأواني الفخارية، التي التحقت بها منذ الطفولة، "شاقّة جدّا لا سيما مرحلة جلب الطين من الجبل، التي تعد الأصعب".

وتعوّدت النّساء في قرية "الرواشد"، على مشّقة التوجه إلى الجبال، وجمع الطين الصّالح للعجن، وتشكيل الأدوات المنزليّة، ومن ثمّ بيع منتجاتهن بالجملة أو بالتّفصيل كل قطعة على حدة، لمن يحتاجها، لا سيما في ظل إقبال الناس على تلك الأواني، لاعتقادهم أن استعمالها صحيّ كونها مصنوعة من مواد طبيعية. وفي حديثهما لـ"الأناضول"، أبدت المرأتان تذمرهما مما اعتبرتاه عدم "التفات السلطات المعنية" لهن، و"تجاهل" ظروفهن الصعبة، فقرية "الرواشد" تقع على بعد كيلومترات من معتمدية "بلخير" التابعة لولاية قفصة، وهي مطلة على سلسة جبليّة تسمى جبال عُرباطة، "تفتقر لأبسط مقومات الحياة، وما من أحد يعيرها اهتماما".

ومع مشقة هذه المهنة، فإن عائدها المادي بسيط للغاية، فالقطعة الواحدة منها تباع بـ0.5 دولار أمريكي فقط، الأمر الذي يتطلب من العاملات في هذه الحرفة، بذل جهد مضاعف، للحصول على أرباح توفر لهن حياة كريمة.وتعتبر الصناعة الفخارية، من أقدم الصناعات التقليدية العريقة، التي توارثتها الأجيال عبر السنين، في تونس، حيث تعد أقدم حرفة امتهنها أبناء ولاية "قفصة"، منذ وجودهم بالمنطقة، وفق الباحث التونسي في علم الاجتماع، "علي الفالحي".

وأشار "الفالحي"، في حديثٍ لـ"الأناضول"، أنّ "سكان قفصة، عرفوا صناعة الطين منذ الحضارة (القبصية) (حضارة ظهرت بين 10 آلاف و 6 آلاف سنة قبل الحاضر، أي في آخر العصر الحجري القديم وفي العصر الحجري الوسيط وفي العصر الحجري الحديث، في المناطق الداخلية من شمال إفريقيا الحالي، خاصة في تونس وفي الجزائر وفي المغرب).

 ويضيف، "رغم وجود المادة الأولية (الطّين) وتوفرها، إلا أن هذه الصناعة اندثرت، وحسب بعض الدراسات، فإن التوجه نحو استخراج الفسفات بالمنطقة، وكذلك عدم إدراج قفصة كممر سياحي لم يخلق الرغبة والدافعية لدى الأهالي والحرفيين إلى مزاولة هذه الحرفة، فازدهرت أكثر في كل من نابل (شرق)، وجربة (جنوب) لارتباطها بالسياحة أي أن هناك عوامل سياسية قتلت هذه المهنة".

وبحسب مقال صادر عن المعهد الوطني للتراث (حكومي) تحت عنوان "الفخار اليدوي الريفي" في مؤلَّف بعنوان "ألوان من تونس" 25 قرنا من الخزف"، فقد "ظهرت صناعة الفخار اليدوي في تونس منذ العصر الحجري، وتواصلت إلى يومنا هذا دون تحريف تقريبا على مستوى القولبة والزخرفة، على الرّغم من توافد تيارات ثقافيّة عدة على البلاد".

وبحسب المقال، "يوجد بتونس أسلوبان للقولبة يتمثّل الأوّل، في استئصال قطع من عجين الطّين، تُسطح بالأيدي فتصبح بمثابة قعر الآنية المزمع صنعها، ثم تشرع المرأة (المَلاّسة) في قولبة لفافات أُخرى تُلصق بقعر الآنية، وتصفف الأخرى فوقها، أما الأسلوب الثاني فيعتمد على تشكيل الجوانب بالضغط على قطعة طين تمطط بالأيدي من الأسفل إلى الأعلى.

ويخلط الكثير من الناس بين الخزف والفخار، فالأخير هو ما صنع من الطين وحرق فيما بعد بالنار ليتماسك، أما الأول فيشبهه الفخار في طريقة تصنيعه، لكنه يتميز عنه بالمادة الزجاجية التي تتم إضافتها إلى الطينة التي يصنع منها، ذلك أنه يتم حرقه بالنار مرة أخرى بعد إضافة هذه المادة.

ويعد الفخار أيضا حسب ما يؤكده عدد من الباحثين و المختصين، حلقة وصل بين العصور فهو من أهم الشواهد المادية المساهمة في تتبع التسلسل التاريخي لتطور الحضارات. ولا تتوفر إحصائيات رسمية حول عدد العاملين في مهنة صناعة الأواني الفخارية في تونس.

ووفق إحصاء للبنك الدولي، حول نسبة سكان الرّيف من مجموع سكان كل بلد في العالم، فإن نسبة سكان الريف في تونس، بلغت عام 2014، 33%.وفي إحصاء آخر للسكان حسب الوسط والفئة العمريّة في تونس خلال 2014، فإنّ عدد النّساء اللاتي يعشن في وسط غير بلدي (ريفي) قدّر بمليون و786 ألفا و175 أمرأة من مجموع 5 ملايين و510 آلاف و222 (عدد النساء الإجمالي بتونس). تجدر الإشارة أن إجمالي عدد السكان في تونس، قُدر في آخر إحصاء لسنة 2014، بـ10 ملايين و982 ألفًا و473 نسمة.


مواضيع متعلقة