جبل الجليد الغاطس فى العلاقات الأمريكية - السعودية!

لا يبدو أن زيارة الرئيس الأمريكى أوباما الأخيرة للسعودية ولقاءه مع الملك سلمان وقادة دول الخليج قد نجحت فى لملمة أزمة الثقة الشديدة التى تكتنف العلاقات الأمريكية الخليجية لأسباب عديدة، لعل أولها إحساس الخليجيين المتزايد بعد أحداث الربيع العربى بضرورة اعتمادهم على النفس فى كل ما يتعلق بقضاياهم الأمنية والدفاعية، لأن الولايات المتحدة حليف يصعب الاعتماد عليه وقت الشدة، يمكن أن تغير مواقفها حفاظاً على مصالحها كما فعلت مع الرئيس المصرى مبارك، دون كثير اعتبار لعلاقات التحالف التى تربط واشنطن والخليج على امتداد عقود طويلة.

وما من شك أن أزمة التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى التى تعتقد السعودية ودول الخليج أنها جاءت على حساب أمن الخليج والعرب قد عمقت كثيراً هذا الإحساس، بعد أن ألحت دول الخليج على واشنطن خلال مرحلة التفاوض أن تضمّن الاتفاق النووى الإيرانى التزاماً من جانب طهران بوقف مساندتها لجماعات الإرهاب واحترام أمن الخليج وعدم التدخل فى شئونه الداخلية، لكن الرئيس أوباما أسقط كل هذه الاحترازات خلال تفاوضه مع طهران، لأنه كان يتعجل تسوية الملف النووى الإيرانى بصورة مكنت إيران من أن تعاود دورها القديم شرطياً للخليج، وتقحم أنفها فى الشأن العربى والخليجى، فضلاً عن أن اتفاق التسوية السلمية للملف النووى الإيرانى قلب الأوضاع الاقتصادية لطهران، ومكنها من أن تعاود تصدير نفطها لأسواق أوروبا والعالم، كما أن الإفراج عن أرصدتها الضخمة المجمدة فى بنوك أمريكا وأوروبا أتخمها بحجم ضخم من الأموال يمكن أن يكون له آثاره السياسية على الأمن العربى، لأنه سوف يمكن إيران من زيادة حجم مساعداتها المالية إلى بشار الأسد فى سوريا وحزب الله فى لبنان والحوثيين فى اليمن، ويساعدها على بسط المزيد من نفوذها فى العراق، وجميع ذلك يشكل مواقع أمامية لطهران فى قلب العالم العربى لم تكن موجودة قبل الغزو الأمريكى للعراق.

وفضلاً عن هذين العاملين، ثمة أسباب أخرى جعلت السعوديين والخليجيين أكثر تخوفاً من إدارة أوباما، كشفت عنها تصريحات الرئيس الأمريكى الأخيرة فى حديثه المطول إلى مجلة «أطلنطا» الذى انتقد فيه السعودية بشدة، لأنها لا تزال رغم الجهود المبذولة واحداً من أهم مراكز نشر الفكر المتطرف التى يصل تأثيرها إلى دول عديدة فى آسيا وأفريقيا، كما أعلن أوباما على نحو واضح لا يحتمل أى لبس أن مصالح الولايات المتحدة لم تعد تتعلق كثيراً بمنطقة الشرق الأوسط والخليج، بعد أن قل اعتماد الغرب على النفط العربى، ولم تعد المنطقة تستحق إراقة دماء أى جندى أمريكى فى حرب جديدة، وأن آسيا أصبحت مركز الثقل الجديد فى العلاقات الأمريكية الدولية، ترتبط بها مصالح أمريكا المستقبلية، خاصة أن الآسيويين يحبون الأمريكيين ويختلفون تماماً عن شعوب الشرق الأوسط فى قدراتهم المتعددة وحرصهم على المبادرة والعمل والابتكار، كما يختلفون فى طرائق تفكيرهم التى تجعل التقدم هدفاً واضحاً ومحدداً لجميع الآسيويين، وربما لهذه الأسباب لا نجد فى آسيا شخصاً يكرس كل وقته ليل نهار كى يفخخ أمريكياً يستهدف قتله.

بهذه القسوة البالغة انتقد الرئيس أوباما شعوب الشرق الأوسط، وفى مقدمتها السعودية ودول الخليج، ومع وجود هذا المخزون الضخم من الأفكار والرؤى التى تعكس عمق الخلافات وتباين المصالح بين الجانبين، كان من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن ينجح الرئيس أوباما فى لملمة كل عناصر الاختلاف الأمريكى الخليجى خلال زيارته الأخيرة، كما كان من الصعب على السعوديين والخليجيين أن ينسوا تصريحات أوباما المؤلمة إلى مجلة أطلنطا، ولهذا السبب منح الخليجيون الرئيس الأمريكى استقبالاً فاتراً يلتزم ضرورات كرم الضيافة لكنه يفتقد الحرارة والثقة المتبادلة، خاصة أن أوباما لم يعالج مخاوف السعوديين والخليجيين من نفوذ إيران المتزايد على نحو صحيح، واقتصرت خطته على توجيه نصيحة لدول الخليج بإقامة سلام بارد مع إيران، وتقوية دفاعاتهم وقدراتهم العسكرية، بما يعنى المزيد من استيراد الأسلحة الأمريكية، كما نصح أوباما السعوديين والخليجيين بدعم حكومة حيدر العبادى، وإقناع العشائر العربية وسط العراق بضرورة المشاركة فى تحالف القوات العراقية والبشمرجة الكردية والميليشيات الشيعية التى تستعد لتحرير مدينة الموصل.

وربما تكون زيارة الرئيس أوباما قد خففت بعض الشىء من حدة أزمة الثقة بين الإدارة الأمريكية والدول الخليجية، لكن مستقبل هذه العلاقات لا يزال معلقاً بجل الجليد الغاطس تحت سطح البحر، المتمثل فى مشروع القانون الذى ينظره الكونجرس الأمريكى تحت عنوان (العدالة ضد رعاة الإرهاب)، بناء على طلب من عضوى الشيوخ، السيناتور الديمقراطى جاك شومر والسيناتور الجمهورى جون كورنين يساندهما 25عضواً، يجيز محاكمة مسئولين سعوديين أمام المحاكم الأمريكية بتهمة التخطيط لأحداث 11سبتمر عام 2001، كما يجيز ملاحقة حكومة المملكة السعودية، ويتيح لعائلة ضحايا أحداث 11 سبتمبر مطالبة حكومة المملكة أمام القضاء الأمريكى بدفع تعويضات.

وبرغم أن الرئيس أوباما أعلن قبل ذهابه إلى السعودية أنه سوف يستخدم حق الفيتو إذا أصر الكونجرس على إصدار القانون لسببين مهمين، أولهما أن مشروع القانون الذى ينظره الكونجرس لا يحترم حق الدول فى الحصانة المتعارف عليها، لأن إقرار القانون من شأنه أن يغرى كثيراً من الدول على إصدار قوانين مماثلة تهدد أمن الدبلوماسيين والجنود الأمريكيين، والسبب الثانى أن صدور مثل هذا القانون سوف يعصف بعلاقات التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة والسعودية ودول الخليج، ويمكن أن يترتب عليه أضرار جسيمة لمصالح الولايات المتحدة يصعب احتواؤها، وكانت بعض المصادر الأمريكية قد أكدت أن السعودية أبلغت واشنطن رسمياً بأنه إذا تم تمرير قانون (العدالة ضد رعاة الإرهاب) فى الكونجرس فسوف تعتزم حكومة السعودية بيع سندات خزانة أمريكية بقيمة 750 مليار دولار، فضلاً عن أصول أخرى تملكها السعودية داخل الولايات المتحدة الأمر الذى أحدث اضطراباً ضخماً داخل أمريكا.

وعلى حين تؤكد السعودية أن التقارير المخابراتية التى استند إليها الكونجرس فى مشروع قانونه مطاطة، يمكن أن تتسع لأى تفسير، وأن السند الوحيد للتقرير أن 15من بين مختطفى طائرات أحداث سبتمبر الـ19 كانوا سعوديين، لكن لا صحة لاتهام أى مسئول سعودى داخل السعودية أوخارجها بالاشتراك فى المؤامرة، فضلاً عن أن الحكومة الأمريكية حجبت نشر 28 صفحة من تقريرها إلى الكونجرس، ترى السعودية أنه كان من الضرورى نشرها كى تتمكن الحكومة السعودية من الرد عليها، ورغم أن معظم أقطاب الكونجرس من الجمهوريين والديمقراطيين لا يتحمسون كثيراً لصدور هذا القانون، كما أن أغلبهم يدعم قرار الرئيس أوباما باستخدام حق الفيتو إذا أصر الكونجرس على إصدار القانون، لكن وجه المشكلة الآخر أن نسبة غير قليلة من أعضاء الكونجرس تتحمس لمشروع القانون، فضلاً عن أن معظم مرشحى الرئاسة بمن فيهم هيلارى كلينتون يساندون إصدار القانون، وربما يكون ترامب المرشح الجمهورى المتهم بالحماقة وسوء الفهم والعنصرية هو الوحيد بين مرشحى الرئاسة الذى يرفض صدور هذا القانون.