في حضرة "الأوركسترا": طقس جماعي مقدس عبر العصور

كتب: شريف حسين

في حضرة "الأوركسترا": طقس جماعي مقدس عبر العصور

في حضرة "الأوركسترا": طقس جماعي مقدس عبر العصور

منذ عصر الفراعنة، اعتاد البشر على تكوين جماعات لممارسة فنون الغناء وعزف الموسيقى، فكان طبيعيا أن يتطور وجود تلك الجماعات وكذلك نوعيات الآلات المستخدمة وأشكال الموسيقى التي يتم إنتاجها خصوصا في عصور ازدهار الموسيقى "العصر الكلاسيكي والعصر الرومانتيكي، الواقع بين منتصف القرن الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر"، حتى وصل التطور إلى شكل الأوركسترا الحالي الأكثر تنظيما وانسجاما والذي تحكمه قواعد صارمة مبنية على دراسات أكاديمية، وظهر في العصر الحديث.

الأوركسترا هي تلك المنظومة التي تسير بدقة وفق قواعد لا يحيد عنها أحد إلا قليلا، تقسيم الآلات وأعدادها، أماكن جلوس عازفي كل نوع من الآلات إلى يمين ويسار المايسترو، الانسجام البالغ والحساسية الكبيرة في موعد البدء المحدد والإشارة التي يطلقها القائد، هذا الإبهار الذي يعلو وجه المستمعين المنتمي أغلبهم لطبقات اجتماعية محددة، حين يجلسون في مواجهة ما قد يزيد على الـ 90 آلة موسيقية بين الوتريات وآلات النفخ الخشبي والنفخ النحاسي والآلات الإيقاعية التي تتداخل لإنتاج لوحة صوتية محكمة، فيما يبدو أنه طقس مقدس تساعد الملابس الموحدة، وصمت الحضور وميكانيكية أداء العازفين على المسرح في إضفاء مزيد من القداسة عليه.

أن يتراوح عدد عازفي الأوركسترا من 20 إلى 45 عازفا فإنه يسمى "أوركسترا حجرة"، بينما يزداد العدد في الأوركسترا السيمفوني، والأوركسترا الفيلهارمونيك بحيث يمكن أن يتخطى الـ100 عازف.

لكنّ، خطأ كبيرا يقع فيه غير المتخصصين في الخلط بين مهام وإنتاج كل أوركسترا، بأن عدد العازفين في الأوركسترا الفيلهارمونيك أكبر من الأوركسترا السيمفوني، والحقيقة أن مسألة العدد تتعلق بالمقارنة بين أوركسترا الحجرة من ناحية والأوركسترا السيمفوني والفيلهارمونيك من ناحية أخرى، إلا أن عدد العازفين ليس له أي علاقة بالمقارنة بين السيمفوني والفيلهارمونيك لأن الأمر يتعلق بمهام معينة وأنماط من الإنتاج الموسيقى التي يختص بها كل واحد منهما.

فالأوركسترا الفيلهارمونيك، يقوم بإحياء حفلات الباليه والأوبرات وكذلك عزف السيمفونيات، بينما يقتصر دور الأوركسترا السيمفوني على الحفلات السيفمونية فقط.

ويتم التحاق العازفين بالأوركسترا، عن طريق إعلان الإدارة عن الاحتياج لعدد معين من عازفي آلات محددة، حيث يتقدم العازفون للاختبارات ويتم اختيار العدد المطلوب، بعد تقييم خبرة كل عازف وطريقة أداءه على آلته.

ودخلت مصر عصر الموسيقى الكلاسيكية العالمية في ستينيات القرن الماضي، حيث افتتح عام 1959 المعهد العالي للموسيقى القومية "الكونسيرفتوار" التابع لأكاديمية الفنون، فانتظرت مصر عدة سنوات لتخريج جيل أول وثاني وثالث من العازفين، ولتخريج أساتذة لإدارة المعهد وتدريس فنون الموسيقى بعد رحيل الأساتذة الأجانب، وكذلك بعد غلق المدرسة الروسية لتعليم الموسيقى أبوابها ورحيل أساتذتها في الثمنانيات. وتمتلك مصر اثنين من الأوركسترا، هما أوركسترا أوبرا القاهرة وأوركسترا القاهرة السيمفوني، وعلى الرغم من النجاحات الكبيرة التي قدمها كلاهما طوال السنوات الماضية، إلا أن اختلافا كبيرا بين طريقة عمل وإدارة الأوركسترا في مصر والإدارة في دول أوروبا يظل واقفا أمام نمو ذلك النوع من الفن في مصر.

ويقول نادر عباسي، المايسترو المصري السويسري، الذي قاد عشرات الحفلات في دور أوبرا في أوروبا وكذلك قاد أوركسترا أوبرا القاهرة، إن الإدارات في الخارج تحرص على توفير آلات جميع عازفي الأوركسترا من نفس الماركة التجارية، مع اختيار أفضل الآلات في العالم، نظرا للإمكانات المادية المتوفرة لديهم، بالإضافة إلى المقابل المادي الضخم الذي يحصل عليه عازف الأوركسترا في الخارج، خلافا للعازفين المصريين الذي يضطرهم ضعف المقابل المادي إلى العمل في ستوديهات التسجيل، وتنفيذ الموسيقى التصويرية للأفلام والمسلسلات.

أما على المستوى الفني، فإن العازفين في الخارج يتمتعون بإمكانيات فنية كبيرة جدا، ومروا بتجارب كثيرة واختبارات مضنية للوصول إلى الأوركسترا، فهم أساتذة الموسيقى الذين يقصدهم جميع الطلبة في العالم من أجل الدراسة على أيديهم.

ويحظى موسيقيو الأوركسترا في الخارج بمكانة كبيرة عن تلك التي يحظى بها الموسيقيون بشكل عام في مصر، نظرا لترسخ الوعي بأهمية الموسيقى الكلاسيكية عند الأوروبيين منذ الصغر، حيث يدرس الطلبة هناك الثقافة الموسيقية في المدارس بشكل متعمق كما يدرس آخرون الغناء إلى جانب اختيار آلة بعينها يمكن للطالب التخصص فيها وإتقانها، ما يخلق نوعا من الألفة والمعرفة الجيدة للأطفال بالموسيقى الكلاسيكية، خلافا لما هو قائم في مصر من إهمال كبير للتربية الموسيقية من ناحية، والتعامل مع الغناء الأوبرالي على أنه "مجرد صراخ" من ناحية أخرى.

 


مواضيع متعلقة