نوارة.. الحلم المغدور

ناهد صلاح

ناهد صلاح

كاتب صحفي

كل شىء واقعى فى فيلم «نوارة»، تأليف وإخراج هالة خليل، الشارع والطرقات والحارة الفقيرة التى تبدو كأنها فى منافى الجغرافيا، وناسها المنذورون للشقاء والتعب، كل شىء يبدو خطيراً وكئيباً فى آن؛ عالم باهت وسوداويته غامرة حين تنظر إلى جدران البيوت القديمة المهدمة وشكل الغرفة التى تعيش فيها البطلة مع جدتها المسنة التى تدخر فتات المال للكفن والدفن حين تموت، ودورة المياه المشتركة، والمستشفى الحكومى والمرضى المرميون فى أروقته أو على أَسِرَّته المهملة، وتفاصيل أخرى محسوسة رصدتها هالة خليل بعين كاشفة لمجتمع يعيش على الحافة، فى مقابل المعيشة الرحبة والسخية لأصحاب القصور، والمسافة بينهما هى الرحلة الفاصلة التى تجتازها البطلة بين الحارة والقصر امتداداً للشقاء الإنسانى اليومى، كل هذا النسيج بتناقضاته تراه فتشتبك به وينتابك الشعور بالقرف أو السقوط وكأنك انزلقت فى هوة مظلمة حجبت الحياة وانسدل ظلامها على فقراء البلد وحدهم، فينبعث الخوف ويتكاثر «الغُلب»، كل شىء يوجع ويشعرك بوطأة الهواجس، خصوصاً وأنت تعرف أنك تمضى إلى ما لست تعرف، بعد ما ضاعت ثورة نادت بالعدالة الاجتماعية وظل العدل شريداً، وهذا ما يجسده الفيلم دون أن يقدم قراءة للثورة ولا يعيد ترميم حكاياتها ويجسدها فيعيدنا إلى الذكرى، وإنما يقدم شهادة إنسانية تصيغ من الحدث عنواناً لتجربة سينمائية مختلفة عن أفلام تناولت الثورة أو تماست معها. «نوارة» كما معنى اسمها الزهرة البيضاء المتفتحة حديثاً، هى فتاة بريئة إلى حد الخيال؛ وما أشد العلاقة بين البراءة والقهر الذى تلتقطه العين من أول إطلالة لها، تغطى شعرها بإيشارب مربوط من الخلف وتنتعل «شبشب» رخيصاً، وتحمل وعاءين ثقيلين من المياه تحجل بهما حتى تصل إلى غرفتها فى حارتها المحاصرة بالبؤس التى لا تصل إليها مواسير المياه، لا تنتحب نوارة ولا تشكو الفقر وإنما تتعايش معه بكل ما أوتيت من رضا ويقين بأنه «بكرة هتفرج» كما كانت تقول لخطيبها الذى يتعثر فى حياته، فلا يستطيع أن يتزوج بها ولا أن يجد سريراً فى مستشفى لوالده المصاب بالسرطان، لتمنحه صبراً بانتظار تحسن الأحوال، وهو ذاته الانتظار الذى يعيشه من حولها حتى يكاد يكون المبرر الوحيد لحياتهم بالرغم من سماجته، وهم مثل نوارة لم يشاركوا فى الثورة: «ما نزلتش التحرير عشان خطيبى خاف علىّ من الزحمة، لكن لما تنحى مبارك نزلنا كلنا نحتفل»، فرحوا بعد التنحى، فهل يؤتمن الفرح؟ الحزن هو المزاج المشترك فى هذا الفيلم، هو الذى ينعكس فى الأنفس ويستحث عواطف الوجع بحيث تصبح البلد بشقيها الفقير والغنى تجسيداً لصورة الحزن وجوهره، أتحدث عن طفلة يحرمها والدها من المدرسة لتبدأ مشوار المشقة، وبشر يتابعون نشرات الأخبار وبرامج الـ«توك شو» ويواصلون انتظارهم الواهم باستعادة الأموال المسروقة من الخارج وتوزيع 200 ألف جنيه على كل مواطن، وهم روجت له اللحظة الإعلامية الغوغائية، والبسطاء غير مسئولين عن شىء؛ ليس الماضى من صنع أيديهم، لكنه ميراثهم من البطالة والفقر والجهل، وأغنياء وفاسدون يهربون خارج البلاد، ويتجلى الحزن ويستفحل حين يتم القبض على نوارة بعد أن يستوقفها ضابط الشرطة بوشاية من مساعده، ينظر إلى حقيبتها كما لو أنه ينفذ ما قالته نوارة فى بداية الفيلم عن الكلب بوتشى الذى كان يهاجمها: «الغلبان ما بيجيش غير على الغلبان»، والغُلب هنا يتجسد فى نوارة التى تدوسها أقدام الظلم والفساد ويتلاشى حلم العدالة الاجتماعية الذى يدفع ثمنه من قامت من أجلهم الثورة، وهى النتيجة التى قادنا الفيلم إليها على مدار 122 دقيقة فى سرد هادئ فى البداية يركز على التفاصيل ثم يتسارع حين يخرج من الحارة ويتباطأ ثم يصعد إلى ذروة النهاية القاسية، وعلى خلفية ذلك موسيقى ليال وطفة الشجية التى تظل عالقة بالأذن حتى بعد انتهاء الفيلم، وصورة زكى عارف التى روضتنا عند مفترق الحياة الصعبة ونقيضها، وأزياء ريم العدل ومونتاج منى ربيع، وأداء آسر لمنة شلبى وأمير صلاح الدين ومحمود حميدة وأحمد راتب وشيرين رضا ورجاء حسين، ليكتمل الصنيع البصرى كما خططت له هالة خليل.