التجربة الكندية مع اللاجئين السوريين

محمد فهمى

محمد فهمى

كاتب صحفي

ترقب أيها القارئ هذا الأسبوع هذه المرأة ذات الشعر الأشقر والعيون الزرقاء على قناة «سى إن إن» الأمريكية وهى تأتى إلينا -نحن المشاهدين المهتمين بأخبار سوريا- بمَشاهد من قلب حلب بعد أن تسللت إلى سوريا متنكرة ومرتدية العباءة والحجاب الأسود.. هذه الصحفية المبدعة تضحى بحياتها فى الذكرى الخامسة لاندلاع انتفاضة الشعب السورى من أجل أن تحيى ضمائرنا وتذكرنا بمعاناة هذا الشعب العظيم الذى يدفع يومياً ضريبة جنون الرئيس السورى بشار الأسد. إن معرفتى الشخصية بهذه الصحفية تجعلنى متأكداً أنها تعمل جاهدة للتركيز على الحياة اليومية للسوريين الذين ما زالوا يعيشون على ما تبقى من وطنهم. الدموع كادت أن تنزل من عينى وأنا أشاهد نبذة من سلسلة التقارير التى ستبثها هذا الأسبوع عندما شاهدت مدى الدمار الذى حل بهذه المدينة، ومشهد آخر لامرأة سورية وقد غطت الدماء وجهها وهى تبحث عن شىء ما داخل أنقاض ما تبقى من بيتها.

أغلب الصحفيين فى الفترة المقبلة سيركزون على المحاولات الدبلوماسية والاجتماعات فى جنيف لمحاولة حل الأزمة فى سوريا، خصوصاً بعد تصريحات وزير الخارجية السورى بأنه يأمل فى أن السنة السادسة ستأتى بنهاية الصراع المسلح فى سوريا، ثم ستركز الكاميرات على الصراع السنّى/ الشيعى فى المنطقة والحرب بالوكالة التى تدمر سوريا والعراق واليمن وليبيا، وربما ينغمس الإعلام فى تداعيات إعلان حزب الله كجماعة إرهابية، ولكن يجب أن لا ننسى أبداً منظر الأسر السورية وهم يعبرون المحيط فى رحلات الموت من أجل فقط الوصول إلى بر الأمان هرباً من الجماعات الإرهابية والنظام السورى، فهذه هى القصة الأهم.

الإنسان بداخلى وداخلك يعلم أن معاناة اللاجئين السوريين والأجيال المقبلة من أطفال سوريا ستكون مليئة بالمصاعب، ولكن شعرت ببعض الأمل عندما سافرت فى جولة إلى بعض الدول الغربية التى استقبلت بعض هؤلاء اللاجئين وأحسست بمجموعة من المشاعر المتضاربة والتساؤلات، ففى كندا -مثلاً- استقبل رئيس الوزراء الجديد «جاستين ترودو» ما يقرب من 26 ألف لاجئ سورى بعد أن سافرت لجنة من الجيش الكندى إلى مخيمات اللاجئين السوريين فى الأردن لاختيار وفرز السوريين الذين سيسافرون إلى كندا بعد التأكد من سلامة موقفهم القانونى. أما عن الولايات المتحدة الأمريكية فقد استقبل أوباما أقل من ألف لاجئ سورى فقط!

هذا الموقف الأمريكى المخجل ربما يكون بسبب بعض النخبة والمسئولين العنصريين فى أمريكا مثل المرشح الأمريكى «دونالد ترامب» وغيره، الذين وصفوا هؤلاء اللاجئين الغلابة بـ«القنابل الموقوتة المعدة للإرهاب»، وقتها رد رئيس الوزراء الكندى على الصحافة الكندية ودافع عن موقفه النبيل قائلاً: «نحن لا نصنف الكنديين بلون بشرتهم أو لغتهم أو ديانتهم ولكن نصنفهم بقيمهم وآمالهم وأحلامهم».

كنت فى باريس ألقى ندوة بعد يومين من حدوث الهجمات الإرهابية التى أودت بحياة أكثر من 80 مدنياً على يد إرهابيين برعاية من داعش، وأشيع وقتها أن أحد هؤلاء الإرهابيين قد تسلل إلى فرنسا بجواز سفر سورى مزور مع بعض اللاجئين، تحول حوار الندوة حينها من حرية الصحافة إلى التركيز على الحرب على الإرهاب وركزت أسئلة الصحفيين على هذا الموضوع بالأخص، حينها ذكرت أننى غطيت معاناة اللاجئين السوريين لقناة «سى إن إن» وقنوات أخرى فى بداية اندلاع الانتفاضة السورية فى 2011 وبالأخص نجاح مصر فى استقبال أكثر من 150 ألف لاجئ سورى وقتها وكيف وفرت أرض الكنانة التعليم المجانى والرعاية الصحية لهؤلاء المساكين، وذكرت أيضاً فى تقاريرى أن هذا اللاجئ السورى فى مصر أثبت وجوده فى سوق العمل فى مصر واجتهد وأقام العديد من المشاريع الناجحة.

حقاً، يجب على كندا أن تفتخر برئيس وزرائها الذى استقبل اللاجئين السوريين فى المطار بكل تواضع مرتدياً قميصاً عادياً دون رابطة عنق وداعب الأطفال مقدماً لهم الألعاب ومعاطف الشتاء والورود، وقال لهم «مرحباً بكم فى وطنكم». حينها غنت فرقة من أطفال الكورال الكندى أغنية «طلع البدر علينا» للترحيب بهم مما أبكى الكثير من أهالى هؤلاء الأطفال السوريين.

تقدم كندا لهذه الأسر معاشاً شهرياً وعلاجاً مجانياً وإقامة دائمة والجنسية الكندية ودروساً فى اللغة الإنجليزية والفرنسية لإدماجهم تدريجياً فى المجتمع وسوق العمل الكندى، كما تسابق المواطنون الكنديون فى استقبال بعضهم فى بيوتهم الخاصة وتبرعوا بالأموال والملابس من أجل التكاتف مع هؤلاء المساكين، كما تبرعت العديد من الشركات منها شركة «إيكيا» بأثاث قيمته 180 ألف دولار، وأقرت الدولة مصروفاً يومياً قيمته 10 دولارات للاجئ البالغ و50 دولاراً للقاصر.

بعد أسابيع من هذا الاستقبال العظيم نزلت فى فندق أربع نجوم فى مدينة أوتاوا عاصمة كندا، والتقيت برئيس الوزراء هناك عندما كنت ضيفاً على إحدى جلسات البرلمان الكندى وهنأته على هذا الموقف الإنسانى وأكدت له أن ما فعله كان له صدى عظيم فى الصحافة المصرية وفى الإعلام بالشرق الأوسط، رد على حينها وقال «هذا واجب علينا، فكندا بلد الحب والسلام»، وعندما عدت إلى الفندق يومها أصابنى الذهول والفرحة عندما وجدت العديد من عائلات اللاجئين السوريين نزلاء فى الفندق، وقد خصصت الحكومة الكندية غرفة لكل أسرة وطعاماً فاخراً. استمتعت بمنظر الأطفال وهم يلعبون فى بهو الفندق بحرية وسلام، حينها استدعانى الحس الصحفى وذهبت أسأل أهالى هؤلاء الأطفال عن شعورهم بعد أن هربوا من قنابل جيش الأسد والجماعات الإرهابية، بعضهم قالوا إنهم دخلوا الجنة فى كندا ولكن غالبيتهم قالوا إنهم ممنونون لكرم الحكومة الكندية وهذا الحس الإنسانى، ولكنهم أكدوا لى أنهم يعانون من الغربة ويشتاقون للوطن وأنهم ينوون العودة إلى «سوريا الحبيبة» بعد زوال الطاغية الأسد. ربما اختلف الأربعة ملايين لاجئ على الوضع الراهن ومستقبل سوريا، ولكن المؤكد أن معاناة هؤلاء اللاجئين لن تنتهى بزوال الأسد بل ربما ستكون البداية.

حفظ الله مصر..