يوم استشهاد عبدالمنعم رياض.. ولدت فكرة يوم الشهيد

هذا يوم مجيد فى ذاكرة مصر، يأتى علينا كل عام يحمل فى طياته أعظم معانى التضحية والشجاعة والفداء، إنه اليوم الذى سقط فيه الشهيد العظيم الفريق عبدالمنعم رياض فى 9 مارس 1969 مضرجاً فى دمائه وفارق الحياة، ليولد من رحم الفاجعة المعنى الذى يلهم الأمم روح المقاومة وطاقة الصمود، وعندها يحفر عميقاً المفهوم الذى يصون الذاكرة الوطنية لنضال المصريين، لتتعاظم هذه الذاكرة الثمينة يقظة عبر الزمن من جيل إلى جيل، مفعمة بالبطولة والفخر والانتشاء الوطنى، فتعيش القيم التى يتركها بيننا الشهداء خالدة وناصعة، تتفاعل لتعطى للوطن قيمة فى النفوس تعزز المواطنة وتثرى الموروث التاريخى وتقوى العزم مع كل يوم جديد، ورغم أن استشهاد رياض كان وقتها يوماً حزيناً لمن عاشوه، عندما تناقلت وسائل الإعلام بأسى خبر استشهاده، فإن التاريخ لا يصنعه إلا أمثاله حياً وميتاً، فهو من هو إنه أحد أعظم رجال العسكرية المصرية فى العصر الحديث، وإحدى فلتات القادة فى عالم العسكرية، لذلك نشأت من يوم استشهاد هذه الهامة الجليلة فكرة يوم الشهيد، لقد كان رجلاً عظيماً وكل الشهداء رجال عظام، فلا يوجد تقسيم وطبقات بين الشهداء، لكن تداعيات استشهاد رياض كانت طاقة نور أوحت لمدرسة الوطنية المصرية بأهمية تمجيد الشهداء.

فى التاسع من مارس سنة 1969 استشهد الفريق عبدالمنعم رياض وهو يؤدى واجبه الوطنى على الحد الأمامى لخطوط القتال أثناء حرب الاستنزاف، وكان الرجل قد اعتاد أن يراجع الموقف الميدانى بنفسه فى جبهة القتال وخطوط النار، وكان يقصد بوجوده المستمر بين جنوده فى المواقع الأمامية، رغم خطورة هذا الوضع، أن يعطى القدوة للقادة على كافة المستويات بأهمية الالتحام بالجنود فى كل الأوقات وفى أحلك المواقف، وأن يستطلعوا موقف قوات العدو على الأرض، لأن التقارير التى تُرفع من عناصر الاستطلاع والمراقبة رغم الثقة فيها لا تغنى عن مراجعة العين المدربة الخبيرة من كبار القادة، وكان وجود رياض المستمر وغير المسبوق فى مناطق الاشتباك التى تتصف بالخطورة والاشتعال يلهب حماس الجنود ويرتفع بروحهم المعنوية إلى عنان السماء، وهم يجدون رئيس أركان حرب القوات المسلحة يتحرك بينهم بشجاعة وثبات، والذى لا شك فيه أن هذا البطل العظيم قد حقق نجاحاً منقطع النظير فى غرس هذه المفاهيم فى القادة على كافة المستويات، والدليل الصادق الموثق على هذا النجاح أنه فى حرب السادس من أكتوبر سنة 1973 كانت نسبة شهداء مصر من ضباط القوات المسلحة من إجمالى عددهم ثلاثة أضعاف هذه النسبة عند مقارنتها بالشهداء من الجنود من إجمالى عددهم، وعندما كان المحيطون برياض يحذرونه من مخاطر وجوده المستمر فى خطوط النار كان يرد عليهم بقول مأثور «أنا لست أفضل من أى جندى يدافع عن الجبهة ولا بد أن أكون بينهم فى كل لحظة من لحظات البطولة».

فى نهار 9 مارس 1969 انطلق رياض إلى الجبهة كعادته بعد كل معركة مهمة، واستقل سيارة إلى التشكيل الذى اشتبك فى الليلة السابقة ومعه رئيس أركان الجيش الثانى وقائد المدفعية، وعندما وصل إلى قيادة التشكيل الذى خاض المعركة كان قائده فى مرور خارجى فطلب من رئيس أركان التشكيل أن يستمر فى غرفة العمليات لإدارة الموقف لو قام العدو باشتباك مفاجئ، وقام باصطحاب رياض إلى المواقع أحد النقباء، وفى الكتيبة التى خاضت الجانب الأكبر من العملية استقبله قائدها ورئيس أركانه، فطلب من القائد البقاء فى غرفة العمليات، مطالباً أن يرافقه رئيس أركان الكتيبة إلى أحد المواقع الأمامية، وعندما استوضح الأخير منوهاً بأن أمامنا أكثر من موقع أمامى، قال رياض نزور أكثرها تقدماً فى الأمام، وكان هذا الموقع فى منطقة المعدية رقم 6 فى نادى شاطئ هيئة قناة السويس (الدنفاه) الذى تحفه أشجار عالية عشش فيها القناصة الذين أوقعوا خسائر كبيرة فى أفراد مواقع العدو المواجهة، وبينما كان رياض يستطلع المكان من مسافة تزيد قليلاً عن طول حمام سباحة لموقع العدوالمقابل، مستخدماً نظارة الميدان يراقب ويستكشف، فتح العدو نيرانه فجأة لتتجدد المعركة ومع اشتداد القصف جذبه أحد الضباط إلى إحدى الحفر وقاية له من النيران، تبعه فيها رئيس أركان الجيش الثانى وقفز قائد مدفعية الجيش فى حفرة مجاورة، وبينما كان رياض الذى رفض ترك الموقع يراقب المعركة ويدرسها متتبعاً سيرها، يتابع متحرياً كفاءة رجاله سقطت عليه بمبة هاون مباشرة أحدثت تفريغاً كاملاً للهواء، ما تسبب فى إصابة قاتلة للفريق رياض وإصابة جسيمة لرئيس أركان الجيش اللواء سعدى نجيب أقعدته بقية حياته.

بنى رياض صعوده فى القيادة بالجدارة والاستحقاق والجهد والإخلاص واحترام قيمة العمل، لقد اختار العسكرية برغبة عارمة فى أن يلتحق بسلكها، ولأنه كان طالباً متفوقاً فى البكالوريا ضغطت عليه أسرته ليلتحق بكلية الطب التى قضى بها عامين لكنه كان حاسماً فى النهاية لعشقه للحياة العسكرية، فترك الطب والتحق بالكلية الحربية متسقاً مع ذاته واختياراته وقناعاته، لذلك كان طوال خدمته الأول بين الأوائل.

وُلد رياض فى السنة التى زلزلت الاستعمار البريطانى فى مصر فى 22 أكتوبر 1919 وتوفى والده القائمقام (عقيد) محمد رياض عبدالله قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية وهو فى سن الثانية عشرة، تخرج فى الكلية الحربية فى فبراير 1938 والتحق بسلاح المدفعية (المدفعية المضادة للطائرات) شارك فى الحرب العالمية الثانية فى الصحراء الغربية ثم حرب فلسطين 1948 ثم حرب 1956 تلقى دورة تدريبية فى سلاح المدفعية المضادة للطائرات بكلية «مانويير» بإنجلترا بتقدير امتياز، ثم استكمل دراسته بأكاديمية «وولتش» التى نادراً ما تقبل بالأجانب، كما تلقى دراسات بالولايات المتحدة الأمريكية وقضى عدة سنوات فى أرقى الأكاديميات العسكرية بالاتحاد السوفيتى، حيث أطلق عليه الروس لقب «الجنرال الذهبى» بسبب نبوغه، وفى كل المعاهد والأكاديميات الأجنبية كان ترتيبه الأول على جميع الدارسين فى سابقة هى الأولى فى بعض هذه المعاهد، وكان الأول فى كلية أركان حرب وأجاد اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، وتولى أرقى الوظائف القيادية فى القوات المسلحة المصرية وأنجز بعد هزيمة الخامس من يونيو 1967 عملاً أسطورياً فى إعادة بناء القوات المسلحة، وكان الزعيم خالد الذكر جمال عبدالناصر ينوى تكليفه بتنفيذ معركة العبور فى خريف 1970 لكن الأجل وافاهما قبل ذلك ومُنح رياض بعد استشهاده رتبة الفريق أول تكريماً له.