أساطير سد النهضة

حلمى النمنم

حلمى النمنم

كاتب صحفي

قبل فترة ليست قصيرة نشرت جريدة «الحياة» اللندنية مقالاً للزميل الصحفى والكاتب «داوود الشريان» يدعو فيه مصر إلى أن تتجه نحو البوابة الإسرائيلية لحل مشكلة سد النهضة، وأنه لا غضاضة فى ذلك ما دام الموضوع يتعلق بأمن مصر المائى.. ولا أعرف إن كان النائب السابق توفيق عكاشة قرأ هذا المقال أم لم يقرأه، ولكن ما أعرفه أن الرئيس السادات كان لديه رأى خاص، وهو أن 99% من أوراق قضية الشرق الأوسط، أى القضية الفلسطينية، فى يد الولايات المتحدة.

كان السادات يردد هذا فى زمن الحرب الباردة، وكان قد نجح فى أن يأخذ مصر بعيداً تماماً عن الاتحاد السوفيتى، وبدلاً من أن يحدث توازناً فى العلاقات المصرية بين قطبى الصراع، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، فإنه قلب ظهر المجن للسوفيت، واتجه بالكامل نحو الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ذلك تصور كثيرون أن 99% من أوراق أى قضية، حتى لو كانت داخلية، هى فى يد الولايات المتحدة، وهو ما تحاول أمريكا، على الأقل فى زمن إدارة أوباما، أن تتنصل منه.

نظرية الرئيس السادات تعرضت لتعديل آخر، وهو أن 99% من حل أى قضية هى فى يد إسرائيل والحكومة الإسرائيلية، باعتبار أن إسرائيل قادرة على التدخل والضغط لدى أى طرف.

بعض المحللين والمقربين كانوا يهمسون فى مجالسهم الخاصة وجلسات النميمة، سنوات التسعينيات، بأن الرئيس مبارك يوطد صلاته بالإسرائيليين ليستغلهم فى الضغط على الأمريكيين فى علاقاته التى كانت متوترة بهم، زمن معركة الإرهاب الأولى، أيام إدارة الرئيس بيل كلينتون، وليس هناك ما يؤكد ذلك التحليل، كما أنه ليس هناك ما ينفيه.

ولدى فريق من المصريين والعرب يقين بأن إسرائيل دولة خارقة القدرات، وأنها تفعل المستحيل وتحقق المعجزات، على طريقة مصباح علاء الدين.. وجاء هذا الاعتقاد من مبالغة بعض القوميين والوطنيين فى قوة إسرائيل وقدراتها، رغم أن بعض الشواهد تنفى ذلك، بالتأكيد هى ليست دولة ضعيفة، وهى ذات نفوذ، لكن القوة لها حدود فى النهاية، وأمامنا -مثلاً- الاعتراف الأوروبى المتزايد بالدولة الفلسطينية، وهذا بالتأكيد لا تسعد به إسرائيل وتتمنى لو أنه لم يحدث، ولو كان بإمكانها أن تمنعه لمنعته، تأمل كذلك المقاطعة فى بعض بلاد أوروبا لمنتجات المستوطنات الإسرائيلية، والمقاطعة الأكاديمية لإسرائيل فى بعض الأوساط الغربية، مؤشر ذلك كله أن إسرائيل دولة ليست خارقة وأن لديها مشكلات وأزمات أخرى تعانى منها ولا تستطيع حلها، وهى أزمات معرضة للازدياد وللاستفحال؛ وأكرر أن ذلك لا يعنى أن نهون من قدرة إسرائيل على التأثير فى بعض دوائر صنع القرار فيما يتعلق بها نفسها؛ لأسباب عديدة بعضها تاريخى، يتمثل فى الهولوكوست وما تعرض له اليهود من عنصرية ومحاولة إبادة على يد هتلر أثناء الحرب العالمية الثانية، وموجة العداء للسامية، قبل تلك الحرب فى أوروبا وبلاد الغرب. وفيما يتعلق بسد النهضة، هناك عدة أمور لا يجب أن نغفلها، لدى إثيوبيا حلم قديم أن تقيم سداً خاصاً بها حول منابع النيل، لتستفيد من المياه فى الطاقة الكهربائية وغيرها، وكانت أول محاولة سنة 1927، حين انشغل المصريون بوفاة الزعيم سعد زغلول، وكانت إثيوبيا تلقت عرضاً أمريكياً لبناء سد هناك، ولم ينتبه المصريون بالقدر الكافى لحزنهم الشديد على زعيم الأمة، لكن كانت أطراف القصر الملكى والخارجية المصرية تتابع، والذى حدث أن العرض الأمريكى تم التراجع عنه، بعد أن تبين ارتفاع التكلفة وأن العائد أقل مما هو متوقع أو منتظر، وتوقف الأمر عند هذا الحد.

سنة 1927، لم تكن هناك إسرائيل، كانت لا تزال فكرة، وكان مضى عشر سنوات فقط على وعد بلفور، وكان الفلسطينيون يتابعون ازدياد الهجرات اليهودية إلى بلادهم، ولكن فكرة السد كانت موجودة وكانت مطروحة فى العقلية الإثيوبية، وأظن أنها لم تغادرها، وفى نهاية الثمانينيات قرأت نصوصاً لبعض كتاب من إثيوبيا تتحدث نصاً عما سمته «الإمبريالية المصرية» فى التعامل مع مياه النيل، ونبهت إلى ذلك فى حينه، أثناء ندوة عامة فى نقابة الصحفيين للنقاش حول مياه النيل، وكان نقيب الصحفيين الراحل كامل زهيرى مشغولاً بذلك الملف، وله كتاب حوله، ثم تطورت الأمور مع إثيوبيا، على النحو المعروف، خاصة بعد محاولة اغتيال «مبارك» هناك، والذى حدث أن علاقاتنا بإثيوبيا لم تكن على النحو الذى ينبغى لها، وهكذا، فوجئنا بمشروع سد النهضة، واستفادت إثيوبيا من انشغالنا التام بأمورنا الداخلية فى السنوات الأخيرة من حكم مبارك، تم ما جرى بعد ثورة 25 يناير 2011، والقضية كما تبدو أن إثيوبيا تسعى للتنمية وللنهوض، ولا يمكن لأحد أن ينازعها فى ذلك، والقضية هى كيف يحدث ذلك دون الإضرار بمصالح مصر المائية؟!! هذا ما يجب أن نفكر فيه وأظن أن الدولة طبقاً للتصريحات المعلنة تعمل فى هذا الاتجاه.

الأمر الآخر الذى يجب أن نفكر فيه هو أنه حتى دون بناء سد النهضة فإن مصر بالزيادة الرهيبة فى أعداد السكان تدخل مرحلة الفقر المائى، وهذا ما يجب أن نفكر فيه ونعمل على مواجهته بجدية.

حصة مصر من المياه هى نفسها التى كانت لدينا حين كان عدد سكان مصر 17 مليون نسمة، ولم يكن استهلاك المياه من الفرد بنفس معدل اليوم، نحن الآن 92 مليون نسمة، ونستعمل حصة المياه نفسها، مع ارتفاع معدل الاستهلاك للفرد ذاته، وبات من المهم أن نبحث عن مصادر إضافية للمياه.

ولا يجب أن نخجل من القول إن متوسط استحمام المواطن المصرى قبل عقود كان مرة أو مرتين فى الأسبوع، الآن صار مرة يومياً لدى الكثيرين، ولم تكن لدينا هذه الملاعب التى تستهلك مياهاً كثيرة.

ومن المهم القول إن مصر منذ منتصف الستينيات كانت منتبهة لهذه المشكلة وكان هناك تفكير فى تحلية مياه البحر المتوسط بمشروع نووى، بعرض أمريكى، لكن لم يكتمل العرض، ونحن لدينا ساحل طويل على المتوسط وآخر على البحر الأحمر، ويمكن الاستفادة منهما بأشكال كثيرة فى تأسيس مجتمعات ومدن جديدة، كما هو حادث فى دول الخليج، بل فى إسرائيل ذاتها، فضلاً عن بلدان أخرى فى آسيا.

ومن الواجب أن نثق فى أنفسنا أكثر، نحن وقعنا أسرى مقولة المؤرخ اليونانى «هيرودوت»: «مصر هبة النيل»، والحق أن المقولة مقلوبة، النيل هبة مصر والمصريين، يمر النيل بتسع دول أفريقية، ومع ذلك لم يصبح مصدر الحضارة والنماء كما هو فى مصر، وذلك بجهد وعرق المصريين، ولا يجب أن ننسى ذلك، المصريون وحدهم من أمكنهم ربط البحر الأحمر بالمتوسط، عبر قناة السويس، وحفروا تلك المنطقة الصخرية لتصبح ممراً مائياً عالمياً، ولا يجب أن ننسى ذلك. سد النهضة مشكلة، لكن إرادة المصريين قادرة على مواجهة أعتى المشكلات والأزمات، ومن ثم لسنا فى حاجة إلى ذلك الذعر الذى يحاول البعض أن يصيبنا به، ولسنا بحاجة إلى أن نهرول إلى السفير الإسرائيلى على هذا النحو، مصر أكبر كثيراً من أى أزمة، بفضل جهد أبنائها وعملهم، وما حك جلدك مثل ظفرك.