إعادة هيكلة الشرطة

العلاقة بين الشرطة والشعب تُعد محدداً رئيسياً للعلاقة بين السلطة السياسية والمواطنين، وتشكل بالتالى أحد العوامل الرئيسية لقوة المجتمع ومناعة وتماسك الجبهة الداخلية. وإذا كانت القوات المسلحة تلعب الدور الرئيسى فى الحروب التقليدية، فإن جهاز الشرطة يلعب دوراً متعاظماً فى الحروب الحديثة أو ما يطلق عليه «حروب الجيل الرابع»، حيث تعمد أجهزة المخابرات الأجنبية إلى تحقيق أهدافها فى القضاء على الدول الأخرى وإضعافها من خلال نشر الفوضى والاضطرابات. وغنى عن البيان أن وجود ما يعكر صفو العلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين يُعتبر البيئة الخصبة والمناسبة التى تعمل من خلالها أجهزة المخابرات الأجنبية على تنفيذ مخططاتها. وفى هذا الإطار فهمت السبب من وراء قيام «داليا مجاهد»، مستشارة الرئيس الأمريكى الحالى باراك أوباما، بعمل دراسة فى نهاية العام 2009م عن مدى رضاء بعض الشعوب عن أحوالها المعيشية، وكانت النتيجة هى أن الشعب المصرى آنذاك كان أقل رضاء عن أحواله من بعض الشعوب التى ترزح تحت الاحتلال مثل سكان قطاع غزة والشعب العراقى آنذاك. والغريب أيضاً أن مؤشر سعادة الشعوب عن العام 2015 (World Happiness Report 2015) يُظهر أن درجة سعادة الشعب المصرى لم تتغير كثيراً رغم قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير ومن بعدها ثورة الثلاثين من يونيو. إذ يُظهر التقرير أن تصنيف مصر عن الفترة من 2012- 2014 يقع فى المرتبة 135، مسبوقة بدولة الجوار ليبيا الشقيقة (63)، نيجيريا (78)، تونس (107)، الأراضى الفلسطينية (108)، العراق (112)، السودان (118)، موريتانيا (124)، كينيا (125)، جيبوتى (126)، بوتسوانا (128)، مالاوى (131)، والكاميرون (133). ولعل ما يبعث على الاندهاش أن بعض الشعوب الأفريقية الأقل منا فى مستوى المعيشة تسبقنا فى ترتيب مؤشر السعادة، الأمر الذى يقطع بأن الدخل ليس هو العامل الوحيد للشعور بالسعادة، ويؤكد أن بعض العوامل غير المادية مثل الشعور بالعدالة والمساواة واحترام الكرامة الآدمية وغياب الفساد يمكن أن تلعب دوراً كبيراً فى تحسين الحالة النفسية للفرد ودرجة شعوره بالسعادة. ومن هنا تبدو أهمية هذا المقال الذى يركز على إعادة هيكلة الشرطة باعتبارها أحد الحلول الأساسية لمشكلة التجاوزات التى تقع من بعض أفراد هذا الجهاز الحيوى المهم. وبالتمعن فى هذه التجاوزات، يمكن الجزم بأن المشكلة الأساسية تكمن فى عنف سلوك فئة أمناء الشرطة. وللتدليل على ذلك، يكفى أن نسترجع العديد من الحوادث التى تسبب فيها بعض أفراد هذه الفئة. فقبل ثورة 25 يناير 2011، لعلنا نتذكر جميعاً حادثة وفاة خالد سعيد على يد أمين شرطة بالإسكندرية، وكان مقتله أحد العوامل الرئيسية فى اندلاع الثورة. وبعد ثورة يناير، وما تعرضت له الشرطة من انكسار، نظمت مجموعات من الأمناء تظاهرات ووقفات احتجاجية متكررة، وامتنعوا عن العمل وأغلقوا أبواب مديريات الأمن وأقسام الشرطة بالجنازير، بدعوى أنهم يعانون ظلماً مالياً ووظيفياً. وقد كانت أكبر هذه الاحتجاجات شدة عندما قاموا باقتحام مبنى مديرية أمن الشرقية. وفى عددها الصادر يوم السبت الموافق 20 فبراير 2016م، رصدت جريدة الوطن «أبرز جرائم ومخالفات ارتكبها أمناء شرطة ضد المواطنين فى 30 يوماً»، وبحيث يمكن القول بأن الشارع المصرى لا يمر عليه يومان دون مخالفة جديدة لهذه الفئة. وقد أحدثت بعض هذه المخالفات حالة من الاحتقان والغضب بين العديد من أفراد المجتمع المصرى. ويكفى أن نتذكر مشهد احتشاد آلاف الأطباء فى دار الحكمة، مقر نقابة الأطباء، للمشاركة فى الجمعية العمومية الطارئة للنقابة على أثر قيام بعض أمناء الشرطة بإهانة أطباء مستشفى المطرية. ولا يفوتنا أن نشير إلى واقعة «الدرب الأحمر»، التى قام فيها أمين شرطة بقتل أحد الشباب، مستخدماً سلاحه الميرى فى ارتكاب جريمته، وما ترتب عليها من محاولة الأهالى الفتك بالقاتل واحتشادهم أمام مديرية الأمن بعد إفلاته من أجل تسليمه لهم للقصاص منه.

وهكذا، أصبح ملف أمناء الشرطة مزعجاً لما سببوه على مدى السنوات الماضية من احتقان وتحريض على العصيان. ونعتقد أن الحل يكمن فى إعادة هيكلة الشرطة. فلكل مؤسسة لا بد من هيكل تنظيمى ووظيفى. ويُعتبر الهيكل التنظيمى والوظيفى لأى مؤسسة الوسيلة أو الأداة اللازمة لمساعدتها على تحقيق أهدافها بكفاءة وفاعلية، من خلال المساعدة فى تنفيذ الخطط واتخاذ القرارات وتحديد أدوار الأفراد وتحقيق الانسجام بين مختلف الوحدات والأنشطة وتفادى التداخل والازدواجية والاختناقات. وللهيكل التنظيمى تأثير كبير على سلوكيات الأفراد والجماعات فى المؤسسات. فتقسيم العمل والتخصص يتضمن إسناد مهام وواجبات محددة لكل فرد، والالتزامات المترتبة على الفرد وتوقعاته نتيجة لذلك قد توفر له الشعور بالرضا عن العمل. فمن دون هيكل تنظيمى جيد ومناسب، فإن العمليات التنظيمية تسير بشكل فوضوى لا يستند إلى أساس علمى متين، حيث تتخبط المؤسسة وتنحرف عن مسارها وعن أهدافها. فالهيكل التنظيمى غير الملائم يترتب عليه آثار سلبية من حيث تدنى معنويات وحافزية العاملين واتخاذ قرارات غير سليمة وتزايد النزاعات التنظيمية والوظيفية وانخفاض الطموح والإبداع وتزايد النفقات. ومن خلال الهيكل التنظيمى تتحدد خطوط السلطة وانسيابها بين الوظائف، وكذلك بين الوحدات الإدارية المختلفة التى تعمل معاً على تحقيق أهداف المؤسسة.

وبتطبيق المبادئ السابقة على الهيكل التنظيمى والوظيفى لجهاز الشرطة، نرى من الأنسب إلغاء معهد أمناء الشرطة، مع تطبيق الفكرة التى استند إليها إنشاء المعهد على كلية الشرطة ذاتها. بيان ذلك أن فكرة معهد أمناء الشرطة وُلدت فى عهد تولية شعراوى جمعة وزارة الداخلية أواخر الستينات من القرن الماضى، والفكرة التى كان يروج لها هى أن يركز فى تأهيل الشباب الحاصل على الثانوية العامة على المهام والواجبات الشرطية دون الحصول على ليسانس الحقوق، مما يختصر الوقت، على أن تلغى كلية الشرطة، لأن البلاد حسبما كان يعلن فى تصريحات وأحاديث منشورة آنذاك ليست فى حاجة إلى أن يكون رجل الشرطة متخصصاً فى القانون. وقد عزز فكرته بأن كثيراً من دول العالم المتقدم لا يحصل فيها ضابط الشرطة على ليسانس الحقوق، كما هو الشأن فى بريطانيا وأيرلندا وأسكتلندا. وقد تبنت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً هذا النهج. فقد كانت المادة 31 من القانون الاتحادى رقم (5) لسنة 1992م فى شأن كلية الشرطة تنص على أن يُمنح الطالب درجة «الليسانس فى العلوم القانونية والشرطية». ولكن، وبموجب القانون الاتحادى رقم (31) لسنة 2005م، تم تعديل المادة آنفة الذكر، بحيث يحصل الطالب على درجة «البكالوريوس فى العلوم الشرطية والعدالة الجنائية». وهكذا، قامت دولة الإمارات العربية المتحدة بتنفيذ الفكرة التى كان شعراوى جمعة يسعى إلى تحقيقها. أما فى مصرنا الحبيبة، فإن ما تم التفكير فيه عندنا فى الستينات من القرن الماضى لم يرَ النور حتى تاريخه، وتحولت الفكرة الإصلاحية إلى مسخ، من خلال إنشاء معهد أمناء الشرطة دون أن يتم إلغاء كلية الشرطة.

* أستاذ القانون الجنائى بجامعة القاهرة