أشجار النخيل تكتب الفصل الأخير! (5)

آمال عثمان

آمال عثمان

كاتب صحفي

من يكتب الفصل الأخير من حياة هؤلاء الأبطال؟ أم أن حياتهم ستظل دائماً قصة مبتورة تبحث عن نهاية فى فضاء رحب بجوار الشهداء والأنبياء والصديقين؟ هكذا كان الخاطر الذى دار بخلد النقيب حسام شرف الدين حين تلقى بشارة تشير إلى اقتراب موعد نيله شرف الشهادة، ورؤيا تنبئ بوصول قطار العمر إلى محطته الأخيرة.

لم يفارق خاطره لحظة صورة الشهيد مصطفى حجاج وهو يستقبله فى المنام وسط السحب البيضاء الكثيفة، ولم يغادر ذهنه ذلك الحلم الذى شاهد فيه صديقه وهو بصحبة رجل وسيم الوجه مهيب الطلعة، يقترب منه ليبلغه بأن سيد شهداء أهل الجنة حمزة بن عبدالمطلب، أسد الله ورسوله، جاء ليستقبله ويرحب به فى دار الخلود، وأن جميع زملاء الدفعة سعداء بهذا الشرف الذى اختصه به.

لذا أمضى النقيب حسام ساعات رحلة العودة من الأقصر إلى القاهرة فى تسجيل تفاصيل قصص شهداء دفعة أسد البحار، وتدوين بطولات دفعة البواسل الذين لا يهابون الموت، ولكن القدر لم يمهله فرصة إتمام مهمته، واستكمال كتابة قصص الشهداء، كما لم يمنحه الوقت لتحقيق آخر أمنياته ورغباته فى الحياة، حضور عيد الميلاد الخامس لولديه التوأم، وضمهما بين أحضانه!

كانت عقارب الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً حين استيقظت زوجة الشهيد حسام وقد بللت الدموع وسادتها، أعاد لها ذلك الحلم ذكريات جميلة ذهب صاحبها إلى الأبد، ولم يتبق لها سوى دفتر أوراق يضم بين دفتيه قصص البطولات والفداء والشجاعة، وتحتضن صفحاته أجمل معانى الوفاء والصبر والتضحية، أمسكت «علا» بالقلم وبدأت تسطر الفصل الأخير من حياة زوجها، وحبيب عمرها الذى عاشت معه أجمل أيام حياتها، بعد أن جمعهما حب الموسيقى والغناء، كانت وقتها قد بدأت عملها معيدة فى كلية التربية الموسيقية بالزمالك، وكان هو ملازماً حديث التخرج وتقدم للالتحاق بدورة لتعلم العزف على البيانو، وبعد أربعة دروس طلب يدها من والدها، ورزقهما الله بالتوأم حسن وحسين بعد عام من زواجهما.

فى إحدى الدوريات بالقرب من رفح خرج النقيب حسام ومعه ثلاثة جنود فى السيارة المدرعة، خالد وعبدالرحمن جنديان مقاتلان وناجى جندى مجند، وأثناء مرورهم بمنطقة مليئة بأشجار النخيل ألقت عليهم مجموعة إرهابية قذيفة أصابت مؤخرة السيارة، وأصابت الشظايا عبدالرحمن فى عنقه، وحسام فى فخذه، فى حين أصيب خالد فى ظهره وناجى فى كتفه اليمنى، وعلى الفور أصدر النقيب حسام أوامره بملاحقة سيارتى الإرهابيين، فوجّه خالد قذيفة «آر بى جى» نحو إحدى السيارتين وفجّرها، وبدأ تبادل إطلاق النار مع السيارة الأخرى.

كانت إصابة كتف ناجى شديدة فلم يستطع حمل السلاح، كما كان نزيف جرح رقبة عبدالرحمن غزيراً فسقط بعد فترة وجيزة وأسلم روحه لبارئها، وواصل حسام وخالد الاشتباك رغم إصابتهما، وتعرض الإطار الأمامى للسيارة لسيل من الطلقات فتوقفت، ولكن خالد وجّه قذيفة نحو السيارة الأخرى وفجّرها، فأطلقوا رصاصة على رأسه ليسقط شهيداً.

ساد هدوء مريب، ولم يبق سوى حسام وناجى الذى كانت ذراعه متدلية إلى جواره، استكشف حسام الموقع ثم هبط من السيارة متحاملاً على ساقه المصابة، ثم ساعد ناجى على الخروج من المدرعة، وأبلغه بسرعة التحرك قبل وصول الإرهابيين من نفق جهة الشمال الشرقى، كان الإرهابيون يتدفقون منه بعد تفجير السيارتين، ربط حسام ذراع ناجى ليقلل النزيف، وقام بنقله إلى حفرة منخفضة بين ثلاث نخلات، وطلب منه الاستلقاء على بطنه، ووضع فوقه طبقة خفيفة من التراب ثم غطاه بسعف النخيل، وأمره بالتزام الهدوء مهما حدث حتى يصل الدعم من الكتيبة، رفض ناجى أن يترك النقيب حسام وحده، ولكنه أبلغه بأن إصابته لن تمكّنه من حمل السلاح، وأنه يستطيع أن يواصل القتال، ويأخذ بثأره حين يشفى.

راح ناجى يراقب الموقف من الفجوات الصغيرة الموجودة بين سعف النخيل، وتابع النقيب حسام وهو يخفى آثار أقدامهما، ويغطى قطرات الدم المتساقطة منهما بالتراب، حتى لا يترك أثراً يستدل به الإرهابيون على مكانه، ثم جمع الأسلحة ووضعها بجواره، واستتر بجسم السيارة منتظراً لحظة المواجهة الحاسمة مع جنود الشيطان!

وللحديث بقية..