قبل الدخول فى هذا الموضوع الحساس -من وجهة نظرى لأسباب أحتفظ بها لنفسى اليوم- فينبغى أن نوضح للجميع حكمة جميلة بالغة هنا، عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهى دقيقة وموضوعية وفى مناسبتها. قال الإمام مالك: «كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم»، أو (إلا صاحب هذا القبر)، يعنى رسول الله). أيضاً يعلمنا الأدب الإسلامى قيماً جميلة منها «اذكروا محاسن موتاكم».
ساءنى كثيراً بعض التعليقات التى يبثها بعض المتشددين، ويبثها الجاهلون، عن بعض الرموز العظيمة، ومنهم هيكل، رحمه الله تعالى. من القيم الجميلة ما جاء فى قوله، صلى الله عليه وسلم، «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
كان «هيكل»، رحمه الله تعالى، يُدعى قبل وفاته إلى المحافل المهمة محلياً أى وطنياً، وإقليمياً أى عربياً، وإنسانياً أى عالمياً. واليوم يجب على من أحبه فى هذه الحياة الدنيا، أن ندعو الله تعالى له، أن ينير قبره، ويجعله روضة من رياض الجنة، وأن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والأبرار وحسن أولئك رفيقاً.
كان «هيكل» صاحب همة، وهذه من الخصائص والسمات البارزة المميزة للشخص العظيم، فى حياته ومواقفه وسلوكه، وتترك له أثراً كبيراً بعد مماته. والهمة كما يقول ابن القيم، رحمه الله تعالى، «ينبغى على المسافر (إلى الله تعالى) أن تكون له همة تسيّره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه». وكلنا طبعاً مسافرون إلى الله تعالى. والشاعر العربى يقول:
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبد الدهر بين الحفر
والهمة هى التى تصعد بصاحبها إلى الجبال، وتسير معه فى الوديان، وتصعد بك أيها القارئ إلى السماء، ولا تخذلك فى الأرض. وكم كانت همة هيكل كبيرة، فصعدت به فوق الجبال، ولم يتهيب ذلك الصعود.
ويقول أمير الشعراء شوقى، رحمه الله تعالى:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّى *** وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ *** إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا
وما أجمل قول شوقى فى هذه القصيدة «سلوا قلبى»:
فَمَن يَغتَرُّ بِالدُنيا فَإِنّى *** لَبِستُ بِها فَأَبلَيتُ الثِيابا
أقول، كان «هيكل»، رحمه الله تعالى، صاحب همة عالية، برزت فى عهد عبدالناصر خصوصاً، ومعها فلسفة جميلة، اختفت الفلسفة أو اختبأت فى عهد السادات، ولكن الهمة ظلت على ما هى عليه. ظهرت الهمة فى الإنتاج والحركة حتى آخر العمر، وقد ظهرت العزة فى رفضه المناصب الوزارية أو غيرها آنذاك. تعرض الرجل للسجن بسبب تلك الفلسفة، التى لم يستفد منها أحد فى عهد السادات ومبارك إلا قليلاً. وظل الرجل يقول كلمته، ويكتب بحكمة عظيمة، حتى عاد إليه بريق الإعلام والأمل بعد ثورة 25 يناير، ثم أكثر بعد 30 يونيو.
هذا المقال -ليس لتعداد مزايا أو إيجابيات هيكل- وهى عديدة حتى مع خصومه، فقد خصصت له الصحف المصرية والعربية وبعض الصحف العالمية، صفحات وصفحات، وبعضها من الصحف اليومية والأسبوعية، وخصوصاً فى مصر، خصصوا له ملاحق تتحدث عن حياته، ومواقفه وسلوكه. وما أيسر الرجوع إليها.
ولكن هذا المقال، الذى أوجهه للشباب خصوصاً، الذين لا يعرفون هيكل جيداً ولم يعاصروه، ولم يحضروا لقاءاته وندواته أو لم يقابلوه، ليوضح لهم أن الهمة والعزيمة فى الإنسان تصنع المواقف الكريمة، وتثريها التجربة. وكان «هيكل»، رحمه الله تعالى، صاحب تجربة كبيرة كذلك، عاش منها ما يقرب من ثمانين سنة إلا قليلاً فى المهنة الشاقة، مهنة العذاب، مهنة الإعلام الموضوعى، الذى نفتقد إلى الكثير منه اليوم.
إن التوازن بين الاقتراب أو القرب من السلطة والسياسة والحكم والدخول فيها، والشعب، وخصوصاً المثقفين، والكلمة التى تتميز بالحكمة والمعلومة، توازن صعب. عاش «هيكل» كل ذلك. متى يقول المعلومة ومتى يخفيها أو يؤجل قولها، حتى كان «هيكل» أستاذاً عملاقاً فى كل ذلك أو معظمه.
لم يتهيب «هيكل» صعود الجبال، فصعد أعلى فى القمم، لم يتمنَ المطالب وعاش على ذلك التمنى، بل غالبها، فاستحوذ على كثير من جوانبها، وأقول إن الله تعالى هو الذى يعلم حقيقة الإنسان ويعلم مدى اغترار الإنسان بالدنيا، ولكننا بكل تأكيد نعرف أننا نلبس فيها الثياب، ثم نخلعها قبل الرحيل، وهكذا كان «هيكل» مرت الدنيا به كما مرت بغيره، مما طال عمره أو قصر.
أدعو الله تعالى لهيكل وجميع موتانا بالمغفرة والرحمة. وكرم الله تعالى هو الذى بث فينا الطمأنينة الكاملة فى الدنيا نحو الآخرة، وهو يقول فى قرآنه الكريم «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»، والله الموفق.