تقول القصة إن الفقيه العابد مالك بن دينار وقف ذات يوم يعظ الناس فأبكاهم جميعاً، وعندما همّ بالانصراف بحث عن مصحفه فلم يجده فقال موجهاً حديثه لهم: كلكم يبكى فمن سرق المصحف؟!
تذكرت هذه القصة عندما جلست أتأمل المشهد المصرى وقد اختلطت فيه اللافتات والشاشات والوجوه والاتهامات، فأصبح الناس لا يقدرون على التمييز الدقيق بين أهل الصدق الأبلج وأهل الباطل اللجلج؛ لأن كل واحد يبكى على الحق والحقيقة التى ضاعت بجريمة وجريرة خصمه.
فأنظر فى هذا المشهد وتحاول نفسى التغرير بى بقولها: هكذا تكون الحال فى أوقات السيولة التى تمرُّ بها البلاد بعد الثورات.
ولكن سرعان ما يوقطنى ضميرى بسؤال مخنوق العَبرة: هل السيولة التى تتكلمين عنها أيتها النفس جاءت من السيولة السياسية والاجتماعية أم من سيلان الدماء الطاهرة لشهدائنا، والتى يستفيد الجميع بالتباكى عليها والقسم ببذل الدم فداء لها فى الهتاف الشهير: (لنجيب حقهم يا نموت زيهم).
وهنا، وأثناء مشاهد التباكى الحارة، تبرز صور الشهداء مخضبة بالأنوار بدل الدماء فى صفحة السماء، لكن تلك الصور تلقى علينا سؤالاً ثقيلاً مريراً برائحة الدم: كلكم يبكى فمن قتل الشهيد؟!
أذكر هذا وأنا أقف خاشعاً أمام صورة شيخ الثوار أخى الأكبر العلامة الشهيد عماد عفت، ذلك الشيخ المغدور به الذى سال دمه الممزوج بنور العلم وحرارة الشوق إلى الكرامة والحرية، فأضاء قلوب محبيه بأعظم القيم الإنسانية قبل أن يضىء السماء بروحه الطاهرة التى نحسبها، ولا نزكيها على الله، قد زُفت إلى المقامات القدسية العلية.
وستبقى اللعنة تتعقب من أراق دمه الطاهر فى الدنيا قبل الآخرة حيثما توجه وتلفح وجهه بنيران تكافئ اللهيب الذى اشتعل فى وجدان محبيه الملتاعين والمحزونين لفقده.
فلا بد يا سادة أن نؤمن بأن دماء الشهداء كما كانت نوراً أضاء درب التغيير والثورة، فهى قادرة أيضاً، إن أُكرمت واحتُرمت، على أن تكون دافعة وحافزة فى مسيرة تقدم ورقى مصرنا الجديدة.
وإنى يغمرنى يقين بأن مصرنا المحروسة لن تتجاوز حالة السيولة التى تمر بها إلا إذا سارعت بإطفاء النيران المشتعلة فى قلوب أهالى هؤلاء الشهداء ومحبيهم بمحاسبة من شارك أو كان سبباً فى إراقة تلك الدماء الطاهرة حتى لا يأتى اليوم الذى نصرخ فيه بأن المغرضين الذين لا يريدون استقراراً لمصرنا المحروسة يستغلون هذه الدماء الطاهرة بالمتاجرة بها لتحقيق مصالحهم الدنيئة.
وستبقى الحكمة التى سطرتها دماء الشهداء ساطعة بأن الشهادة ستظل لغزاً يحير عقول التافهين اللاهثين خلف المتاع القليل الرخيص، ولكنها فى نفس الوقت تظل ملهمة لكل الذين يؤمنون بالصدق والإخلاص والتضحية ديناً وديدناً.