أستطيع أن أستوعب أن مشروع إنشاء 3200 كيلومتر طرق هو أولوية من أجل الاستثمار والتنمية.. أى أنه ضرورة من ضرورات الأمن القومى المصرى، فالطرق هى شرايين التنمية الحقيقية لأى دولة.. ولكنى لا أفهم أبداً أى أولوية تلك التى تمثلها العاصمة الإدارية الجديدة، ولا أفهم سبباً للإصرار على إنشائها بهذه السرعة، ولا أظن أن دراسة وافية سبقتها، فحينما كان مستثمر إماراتى سوف يقوم بالمشروع، كان الطبيعى ألا يكون هناك اعتراض، فهو الذى سيدفع ثمن التخطيط والبنية الأساسية والإنشاء وسيقوم بالبيع، وسيسدد ثمن الأرض للدولة، رغم ثقتى بأن شركات مصرية كبيرة تستطيع أن تقوم هى بالإنشاءات، ولكن بعد انسحاب الشركة الإماراتية، والإعلان عن بدء إنشاء البنية الأساسية للمشروع، لا بد أن نسأل.. ما الأولوية التى يمثلها هذا المشروع الذى سوف يتكلف 60 مليار جنيه؟! وما وجه العجلة فيه والإصرار عليه؟ هل سيساهم فى حل مشكلة البطالة التى تتزايد يوماً بعد الآخر نتيجة توقف الاستثمارات لأسباب كثيرة معروفة؟! هل سيساهم فى تحسين الحالة المعيشية للمواطن المصرى البسيط الذى يدفع هو كل فاتورة ما حدث فى مصر على مدى سنوات طويلة مضت ولا يزال يدفع ثمن قرارات اقتصادية مزعجة؟! هل سيساعد فى خفض أسعار أى شىء من تلك التى تضاعفت خلال سنوات قليلة؟!
الإجابة، لا أعتقد.. والمؤكد أن مصر تحتاج فى إداراتها الجديدة لترتيب أولويات التحرك بشكل كبير، فلسنا نملك ترف المخاطرة فى الوقت الحالى.. ولم يعد لدينا فرصة أخرى للفشل وإلا سيضيع البلد فى هذه المرة دون أمل فى النجاة، ويجب أن يدقق الرئيس جداً فى اختيار معاونيه ومستشاريه، فالأمانة والخبرة والبعد عن الأهواء الشخصية هى أسس رئيسية لاختيار أى معاون أو مستشار.. والمسئولية عن تحديد الأولويات فى التحرك تقع على عاتق الحكومة فى المقام الأول.. والذى يجعل الرئيس يكوّن رأياً فيما تقدمه الحكومة هم المستشارون والمعاونون للرئيس.
وحتى الآن لا أجد تحديداً للأولويات التى تتحرك مصر على أساسها.. وظنى أن منهج التعامل مع الشباب باعتبارهم مستقبل مصر حتى الآن هو منهج خاطئ، فالفكرة هى الاحتواء وليست المشاركة والحل الفعلى لمشكلاتهم.. فإذا كانت الحكومة الحالية تخفى الأرقام الحقيقية للبطالة، رغم أنها ليست مسئولة عن تلك الحالة التى أدت لضعف فرص العمل أمام القوة البشرية للشباب، فإن لدينا حسب الأرقام ما يقرب من 5 ملايين شاب لا يعملون، والحل هنا ليس فى إيجاد وظائف حكومية لهم، ولكن فى فتح آفاق لمشروعات استثمارية جديدة، ومشاركة البنوك فى تمويل هذه المشروعات بدلاً من أنها لا تستثمر أكثر من 10% من الإيداعات لديها، وهذا يحتاج مناخاً اقتصادياً وتشريعياً مختلفاً عن المناخ الحالى، فليس كل صاحب رأسمال لصاً، وكنت أتمنى أن يبدأ الرئيس فور توليه بالجلوس مع أصحاب المصانع المتعثرين، ويستمع لأسباب تعثرهم، ويسعى لإيجاد حلول لهم، فإذا فتحت هذه المصانع وعادت للعمل مرة أخرى، فإنها تستطيع استيعاب عدد أكبر من الشباب الساخط الذى يشعر بأن الدولة لا توليه أى اهتمام، فيصبح خالى الذهن ويشعر بالإحباط، فيسهل التأثير عليه عن طريق أى قوة مغرضة، ويصبح خصماً من قوة الدولة لا إضافة لها.
وهذا الإجراء وحده كفيل بأن يجذب أى صاحب رأسمال للاستثمار فى مصر، مع التدخل الحاسم والسريع لتعديل منظومة القوانين العقيمة والمعطلة التى أدت بمصر لهذا الشلل الاقتصادى، فإذا وجد الشاب عملاً أصبح قادراً على شراء منزل، ويسير فى حياته الطبيعية، ويزيد انتماؤه لبلده، أما العاصمة الإدارية الجديدة، فهى لا تمثل أهمية كبرى فى سلة الأولويات لبلد فى ظروف مصر الحالية. ولا تقدم حلاً ناجزاً لهذه المشكلات.
والحقيقة أن أى مشروع جديد لا بد أن تسبقه دراسة علمية واقتصادية حتى يحتل مكانه فى جدول الأولويات للسياسة العامة للدولة، فمشروع مثلاً مثل زراعة 1.5 مليون فدان هو مشروع عظيم فى محتواه، ولكنه صعب فى تطبيقه إلا إذا كانت القوات المسلحة هى التى ستقوم بتنفيذه.. فهى الجهة الوحيدة القادرة على تنفيذ هذه النوعية من المشروعات وتحقيق إنجاز فيها، ولها سابقة أعمال فيها، منها على سبيل المثال مشروع شرق العوينات، ومشروع سابق فى المنطقة الغربية منذ نحو 20 عاماً لزراعة القمح على مياه الأمطار. أما زراعة مليون ونصف المليون فدان فجأة، فيجب علينا أن نسأل كيف لشاب أن يذهب إلى هناك فى ظل تكلفة 50 ألف جنيه للفدان؟! وأين سيسكن؟! وإذا مرض هناك، فأين يعالج؟! وأين يجد خدماته الطبيعية؟! والأهم أين ستتم زراعة هذه الأفدنة، ومن أين سيتم تدبير المياه اللازمة لها؟
أقترح على الرئيس تشكيل لجنة خبراء متخصصين فى مختلف مجالات التنمية لتحديد أولويات التحرك فى المرحلة المقبلة بما يتناسب مع الإمكانات الاقتصادية للدولة المصرية الحالية ووضعها فى إطار جدول زمنى منطقى وعملى، فالعبرة ليست بالمشروعات.. أو بالتركيز الإعلامى عليها، ولكن العبرة بالمشروعات التى تنجح فى حل مشكلات إذا لم نتعامل معها بجدية، ستؤدى إلى كوارث.