فى الواقع، إن استقصاء كتب العقائد والفرق -كما ذكرنا فى مقال سابق- يكشف أن الأمة لم تختلف فقط حول أصول العقائد، ولكنها اختلفت حول معايير التمييز بين الطوائف، وأمعنت فى الاختلاف حتى إن دائرة الكفر والتكفير اتسعت عند البعض، وضاقت بدرجة أو بأخرى عند البعض الآخر، وفى كل أصل يحدث خلاف، وفى كل فرع يحدث خلاف إلا فى قليل من مسائل الإجماع النسبى فى عصر من العصور.
والخلاف فى حد ذاته ليس رذيلة إلا إذا كان لأسباب واهية تستند إليها عقول هشة لا تمتلك أى قدر من «العقلانية التواصلية»، ولم تسمع يوماً عن «العقل المشترك». والرذيلة الحقيقية هى عدم احترام الرأى الآخر، وعدم الإيمان بالسنة الإلهية الكونية فى «التنوع»، وادعاء كل فصيل امتلاك الحقيقة المطلقة، ومن ثم تكفير الآخر، ثم استحلال دمه وماله وعرضه وأرضه!
عزيزى القارئ.. هذا ما حدث قديماً. والسؤال الذى لا بد أن نطرحه على أنفسنا: هل يرى أحد أن أمتنا فى العصر الحاضر -عصر الثورة الرقمية- قد تغيرت عن العصور القديمة.. عصور التشرذم والتكفير والإقصاء واستحلال الدماء والأموال والأعراض؟!
لقد حاول علماء الملل والنحل تعداد الفرق الإسلامية الثلاثة والسبعين، وفق معايير، لكنهم لم يتفقوا على تلك المعايير؛ استمراراً فى مسلسل الخلاف اللعين حول كل شىء!
حاول الشهرستانى تحديد تلك المعايير، وسماها «الأصول الكبار»، لكنها تغيرت من بعده، مثلما كانت محل اختلاف من قبله. ولا يزال الخلاف قائماً، ولا تزال «فتنة التفرق» تضرب فى بنيان أمتنا.
والغريب فى كل ذلك أننا لم نتجاوز بعدُ الخلافات العقائدية، بل لا تزال المؤتمرات الجامعية تُعقد للبحث عن «الهوية»!!
تخيل معى عزيزى القارئ أمة من أكبر الأمم لا تزال تبحث عن «هويتها»! وفى الوقت نفسه لا تزال تتدارس معايير التمييز بين طوائفها! أمة تبحث عما يفرق ويميز لا ما يجمع!
مهما يكن من أمر، فلنرجع إلى «الأصول الكبار» التى حددها الشهرستانى، وهنا نجد أنها كلها معايير عقائدية فى ظاهرها، لكنها فى الحقيقة تم توظيفها سياسياً فى الصراع الدائر قديماً حول «الإمامة السياسية»، والدائر حديثاً حول «الحاكمية الإلهية» فى السياسة والاجتماع والاقتصاد وربما العلم والعلوم. وسأنقل تلك الأصول التى يتم بناءً عليها تعداد الفرق والتمييز بينها كما حددها الشهرستانى بالنص، يقول: «القاعدة الأولى: الصفات والتوحيد فيها. وهى تشتمل على مسائل: الصفات الأزلية، إثباتاً عند جماعة، ونفياً عند جماعة. وبيان صفات الذات، وصفات الفعل، وما يجب لله تعالى، وما يجوز عليه، وما يستحيل، وفيها الخلاف بين الأشعرية، والكرامية، والمجسمة والمعتزلة. القاعدة الثانية: القدر والعدل فيه، وهى تشتمل على مسائل: القضاء، والقدر، والجبر والكسب، وإرادة الخير والشر، والمقدور، والمعلوم؛ إثباتاً عند جماعة، ونفياً عند جماعة. وفيها الخلاف بين: القدرية، والنجارية، والجبرية، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الثالثة: الوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام. وهى تشتمل على مسائل: الإيمان، والتوبة، والوعيد، والإرجاء، والتكفير، والتضليل؛ إثباتاً على وجه عند جماعة، ونفياً عند جماعة. وفيها الخلاف بين المرجئة، والوعيدية، والمعتزلة، والأشعرية، والكرامية. القاعدة الرابعة: السمع والعقل، والرسالة، والإمامة. وهى تشتمل على مسائل: التحسين، والتقبيح، والصلاح والأصلح، واللطف، والعصمة فى النبوة. وشرائط الإمامة، نصاً عند جماعة، وإجماعاً عند جماعة. وكيفية انتقالها على مذهب من قال بالنص، وكيفية إثباتها على مذهب من قال بالإجماع. والخلاف فيها بين الشيعة، والخوارج، والمعتزلة والكرامية، والأشعرية. فإذا وجدنا انفراد واحد من أئمة الأمة بمقالة من هذه القاعدة عددنا مقالته مذهباً وجماعته فرقة. وإن وجدنا واحداً انفرد بمسألة فلا نجعل مقالته مذهباً، وجماعته فرقة. بل نجعله مندرجاً تحت واحد ممن وافق سواها مقالته. ورددنا باقى مقالاته إلى الفروع التى لا تعد مذهباً مفرداً؛ فلا تذهب المقالات إلى غير النهاية. فإذا تعينت المسائل التى هى قواعد الخلاف، تبينت أقسام الفرق الإسلامية، وانحصرت كبارها فى أربع بعد أن تداخل بعضها فى بعض. كبار الفرق الإسلامية أربع: 1- القدرية. 2- الصفاتية. 3- الخوارج. 4- الشيعة. ثم يتركب بعضها مع بعض، ويتشعب عن كل فرقة أصناف، فتصل إلى ثلاث وسبعين فرقة».
ولا أريد أن أحشد هنا أسماء تلك الفرق الثلاث والسبعين المنبثقة عن تلك الفصائل الأربع الكبيرة، ولا أريد التوقف هنا عند الأسس العلمية لاختلافنا مع الباحثين عن أساس «الفَرق بين الفِرق»، لكن أريد أن أتوقف عند تلك من الحالة من الحرص على التعقيد والتفريع العقائدى لأصول الإيمان التى جاء بها الإسلام فى وضوح وبساطة ودون غموض. ففى صحيح مسلم، من حديث سفيان بن عبدالله الثقفى، قال: «قلت: يا رسول الله قل لى فى الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم». هكذا الأمر بسيط: إيمان بالله إجمالاً، ثم استقامة السلوك.
لكن مع علم العقائد (علم الكلام) تم تقعيد القواعد وتفريع الفروع، حتى تحول «الإيمان البسيط» إلى «كهنوت غامض» بعيد عن طابع الإسلام الأول، لصالح منظومات عقائدية ميتافيزيقية متناحرة تدفع إلى حرب الجميع ضد الجميع!