يتأكد لنا، مقالاً بعد آخر، أن نتائج علم الكلام القديم على أرض الواقع باتت مميتة، وقد فشل عبر تاريخه فى تحويل «التنوع المميت» إلى «تنوع خلاق».
إن معارك التكفير والإقصاء التى نحياها بسبب طوائف التكفير المغلقة، التى يتكون منها علم الكلام، تكاد تهلك بعض المجتمعات العربية، وهى بالفعل ضالعة فى تفتيت العديد من الدول على أساس طائفى، حتى إن بعضها أوشك على التلاشى من الوجود ككيان دولة واحدة، وهى الآن على حافة التقسيم الطائفى وفق استراتيجية للتقسيم وضعتها الدول الإمبريالية مستغلة غباءنا وعقولنا التى تعيش فى الماضى وترى كل شىء إلا خصمها الحقيقى!
وكما ذكرنا فى المقال السابق فإن البعض حاول حصر هذه الفرق التى انقسمت فى ثلاث وسبعين فرقة اعتماداً على حديث صحته محل اختلاف، لكن استقصاء الفرق فى الواقع يكشف أنها تزيد على ذلك فى العصور الفائتة، وهى تزيد يوماً بعد يوم!
وأهم الفرق الكلامية التقليدية، حسب «البغدادى»: فرق الرفض، وفرق الخوارج، وفرق الاعتزال والقدر، وفرق المرجئة، وفرق النجارية، وفرق الضرارية والبكرية والجهمية والكرامية، وهناك المشبهة الداخلة فى غمار الفرق المذكورة.. وهناك -حسب البغدادى أيضاً- الفرق التى انتسبت إلى الإسلام وليست منه.
ولا يوجد أى معيار موحد ومتفق عليه بين علماء الملل والفرق لتقسيم الفرق الإسلامية، وكل منهم له منهجه فى تعيين المعيار الذى يستند إليه ويميز به طبيعة الخلافات بين الفرق الإسلامية، وكل منهم يرجع إلى ما يتصور أنه «قوانين للهوية» لكل فرقة ليميزها عن غيرها، بل إن القول بوجود قوانين للتمييز بين الفرق المتعددة هو «أمر مبالغ فيه»، فطريقة التمييز لا ترقى لكى تكون قانوناً، وإنما هى مجرد معايير «عرَضية»؛ حتى الذين استندوا إلى «ضوابط» وعددوا الفرق وميزوها حصراً، فإنهم اختلفوا فى تحديد هذه الضوابط التى يتم بناءً عليها التمييز والحصر، كما أنهم حصروا فقط الفرق حتى عصورهم هم، وهنا السؤال يطرح نفسه:
ما القول فى الفرق الجديدة التى تظهر فى كل عصر جديد؟!
هل تدخل هذه الفرق الجديدة فى التعداد الذى تم غلقه من قبل؟
ما القول -مثلاً- فى التيارات الجديدة التى تفصل بين السياسة والدين جزئياً أو جذرياً؟
ما القول فى «القاديانية»، و«الدروز»؟
ما القول فى تيار أمة الإسلام «Nation of Islam» فى الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل يعد هذا التيار فرقة من الفرق؟ وهل يظل العدد القديم للفرق على ما هو عليه؟ وحتى يكون القارئ الكريم معى فى الصورة؛ فإن تيار أمة الإسلام حركة دينية أمريكية أفريقية، تمزج عناصر إسلامية بالقومية السوداء، أسسها «والاس د. فارد» Wallace D. Fard فى (1931م)، وأسّس مسجدها الأول فى ديترويت، ميتشيجان. وقد تقاعد «فارد» بشكل غامض، وأسس مساعده «إيليا محمد» مسجداً ثانياً فى شيكاغو، تم الانتهاء منه فى (1934م). وأكّدت الحركة على التفوق الأخلاقى والثقافى للأفريقيين على البيض، وحثت الأمريكيين الأفريقيين على ترك المسيحية كأداة للمضطهدين. وتضمّنت تعاليمها أيضاً العقائد الإسلامية التقليدية كالتوحيد، والخضوع لله، وحياة أسرية قوية. لكنهم دعوا إلى أمة منفصلة للأمريكيين الأفريقيين، الذين أعلن «إيليا محمد» أنهم شعب الله المختار.
الشاهد من كل هذا أن هناك تيارات جديدة تظهر فى كل عصر، فكيف نغلق العدد على رقم محدد؟ وما «القوانين» التى يمكن أن نستند إليها فى تمييز الفرق؟
أقول «قوانين» وأقصد بها معايير ثابتة ترجع إلى أصل يقينى، ويكون لها قوة قوانين الطبيعة والرياضة فى تحديد «الهويات المغلقة».
وما نقوله من عدم وجود قانون أو قاعدة فاصلة ثابتة يتفق عليها علماء الملل والنحل، ليس «بدعة»؛ فقد ذكره من قبل الشهرستانى، وقد حاول بدوره إيجاد قانون ثابت، لكن من جاءوا بعده وضعوا قوانين أخرى! يقول الشهرستانى: «أعلم أن لأصحاب المقالات طرقاً فى تعديد الفرق الإسلامية، لا على قانون مستند إلى أصل ونص، ولا على قاعدة مخبرة عن الوجود. فما وجدت مصنفين منهم متفقين على منهاج واحد فى تعديد الفرق. ومن المعلوم الذى لا مراء فيه أن ليس كل من تميز عن غيره بمقالة ما؛ فى مسألة ما، عُدّ صاحب مقالة. وإلا فتكاد تخرج المقالات عن حد الحصر والعد. ويكون من انفرد بمسألة فى أحكام الجواهر مثلا معدوداً فى عداد أصحاب المقالات. فلا بد إذن من ضابط فى مسائل هى أصول وقواعد يكون الاختلاف فيها اختلافاً يعتبر مقالة، ويعد صاحبه صاحب مقالة. وما وجدت لأحد من أرباب المقالات عناية بتقرير هذا الضابط، إلا أنهم استرسلوا فى إيراد مذاهب الأمة كيف اتفق، وعلى الوجه الذى وجد، لا على قانون مستقر، وأصل مستمر. فاجتهدت على ما تيسر من التقدير، وتقدر من التيسير حتى حصرتها فى أربع قواعد، هى الأصول الكبار». فما هى تلك الأصول الكبار التى حددها الشهرستانى؟ وكيف تغيرت من بعده؟ وكيف لا يزال الخلاف قائماً؟ وكيف تستمر «فتنة التفرق» تطل على أمتنا. وكيف تعجز هذه الطائفة من البشر عن التحول من «التنوع المميت» إلى «التنوع الخلاق»؟
لا يزال الحديث مستمراً إن شاء الله تعالى.