إن طوائف التكفير هى التى أنشأت علم الكلام، وهى التى حددت موضوعاته وشكلت مناهجه وصنعت تاريخه. وفى رد فعل ديالكتيكى غذى هذا العلم هذه الطوائف وجعلها أكثر تكفيراً وإقصاءً، ولا تزال هذه العلاقة بينهما على وضعها الديالكتيكى، كل يؤثر فى الآخر ويحيا به وينمو فى كنفه! ولا تُستثنى من ذلك أغلب الفرق بما فيها المعتزلة؛ فهى من أقامت محاكم التفتيش للمخالفين لقولها بخلق القرآن.
ولذلك يزداد التفرق، ويا ليته تفرق التنوع الخلاق، بل هو تفرق التنوع المميت.
وقد حاول البعض حصر هذه الفرق فى ثلاث وسبعين فرقة اعتماداً على حديث صحته محل اختلاف، لكن استقصاء الفرق فى الواقع يكشف أنها تزيد على ذلك.
ولنبدأ بحديث الفرق الضالة والفرقة الناجية المعروف بحديث الافتراق المشهور فى السّنن وَالمَساند؛ كسُنن أبى داود والترمذى والنسائى وغيرهم، وله نصوص كثيرة، منها: (افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِى النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَافْتَرَقَتْ النَّصَارَى عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِى النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً، وَسَتَفْتَرِقُ هَذِهِ الْأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً كُلُّهَا فِى النَّارِ إلَّا وَاحِدَةً). وفى لفظ: (عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً). وفى رواية قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَن الْفِرْقَةُ النَّاجِيَةُ؟ قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِى). وفى رواية قال: (هى الجماعة، يَدُ اللَّهِ مع الْجَمَاعَةِ).
فهذا الحديث على الرغم من شهرته وتعدد طرقه وأسانيده، فإن الشيخين (البخارى ومسلم) لم يدرجاه فى صحيحيهما ولم يخرجاه، ومن العلماء الذين حكموا بعدم صحته ابن حزم، قال «لا يصح أصلاً من طريق الإسناد، وما كان هكذا فليس حجة عند من يقول بخبر الواحد» (الفصل فى الملل والنحل 3/ 138). ومع أن ابن تيمية يصححه، فإنه قال: إنه ليس فى الصحيحين» (منهاج السنة 5/ 169). وقال الشوكانى: زيادة «كلها فى النار» لا تصح مرفوعة ولا موقوفة» (فتح القدير 3/110). وقد أورد الشوكانى تلك الزيادة أيضاً فى كتابه «الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة»، حديث رقم 87. وهناك مَن صحح هذا الحديث مثل الترمذى وابن حبان والحاكم وتابعهم جماعة من المتأخرين مثل ابن تيمية فى «الفتاوى» والألبانى فى «السلسلة الصحيحة».
ويكشف تتبع كل طرق هذا الحديث عن كونها مناكير وغرائب ضعيفة ومنكرة، وأحسنها حالاً حديث أبى هريرة وهو حديث حسن، وليس فى حديثه زيادة: «كلها فى النار إلا واحدة»، مع تساهل كبير فى تحسينه؛ لتفرد محمد بن عمرو الليثى به، وهو صدوق له أوهام خاصة فى روايته عن أبى سلمة عن أبى هريرة، وقد تفرد بهذا الحديث عن أبى سلمة عن أبى هريرة، ولهذا تجنب مسلم تخريج حديثه هذا، مع أنه أخرج له أحاديث أخرى فى المتابعات، ولهذا كان القدماء يتقون حديثه كما قال يحيى بن معين.
ومن الواجب تسجيل أن متن هذا الحديث يشير إلى واقعة «التفرق» التى حدثت بين اليهود والتى حدثت بين النصارى والتى سوف تحدث بين المسلمين، وهو ما قد حدث فعلاً، وهذا القدر من الحديث الذى يكشف عن تفرق الأمة أخرجه الحاكم وغيره. أما الزيادة وهى «كلها فى النار إلا واحدة»، أو «كلها فى الجنة إلا واحدة»، أو «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابى»، فكل هذه الزيادات لا تصح سنداً، إذن الصحيح هو فقط الإنباء بحدوث التفرق.
وهى نبوءة صحيحة. لكن الجزم بالتكفير ودخول النار للفرق الأخرى، فهو كما قال الشوكانى أعلاه: زيادة «كلها فى النار» لا تصح مرفوعة ولا موقوفة. وقد أورد هذه الزيادة -كما سبق- فى «الفوائد المجموعة فى الأحاديث الموضوعة».
فهذا الحديث فى مجمله لم تثبت صحته على وجه اليقين، ويوجد خلاف بين العلماء فى تصحيحه، وفى أحسن الأحوال سنده «حسن» من نمط خبر الواحد، وهذا الواحد هو محمد بن عمرو الليثى به، وهو «صدوق له أوهام خاصة فى روايته عن أبى سلمة عن أبى هريرة». ومع ذلك تقوم عليه كل كتب الفرق والعقائد، ويحكم «علم الكلام» كفكرة مفتاحية ومركزية، وتنطلق منه كل فرقة لتتثبت أنها الفرقة الناجية بينما سائر الفرق الأخرى فى النار.
وبصرف النظر عن مسألة صحة الحديث أو ضعفه؛ فالتصحيح والتضعيف مسألة نسبية تختلف فيها آراء المحدثين والفقهاء. لكن ما يجب استنتاجه هنا هو أن من الخطأ الكبير الوقوع فى فخ التكفير بسبب مسألة نسبية وأمر خلافى بين العلماء، ومن أخطاء أكثر المتكلمين فى الفرق هو عقد وتحديد معالم الولاء والبراء، والتمييز بين الفرقة الناجية والفرق الضالة، على أساس من أمر خلافى.
وهذه من أكبر الأخطاء المميتة لعلم الكلام، ولهذا تحول التنوع معه إلى تنوع مميت مهلك قائم على التكفير والإقصاء، وفشل فشلاً ذريعاً فى الوصول إلى تنوع خلاق. وكيف يمكنه أن يصل لهذا وهو يقوم على التكفير للمخالف، والتبديع لكل من أتى بجديد؟!
وللحديث بقية..