بعد سنوات طوال من طرح وجهة نظرى عن ضرورة تجديد «علم أصول الدين» فى المؤتمر المنعقد بجامعة الأزهر 1991، بالانتقال من «علم الكلام» (= علم أصول الدين) إلى «فلسفة الدين»، أجد أن الوقت ربما يكون قد حان لكى أعود إلى طرح وجهة نظرى القديمة والإلحاح عليها، ويبدو أن عدد الكتب التى لمستُ فيها هذه المسألة بطريقة أو بأخرى لا تزال تحتاج إلى مزيد من التفصيل والتنظير المعرفى، وربما التكرار، فى عصر تضغط فيه الصورة التليفزيونية والصوت المرتفع على الكلمات المكتوبة؛ عصر صارت فيه أمة «اقرأ باسم ربك» لا تقرأ إلا مهاترات «الفيس بوك» و«تويتر» و«الصحافة الصفراء»!
لهذا وغيره، ربما يكون حان الوقت لاستعادة المحاولة القديمة لضرورة الانتقال من «علم الكلام» إلى «فلسفة الدين»؛ فما زلت أؤمن بأن تجديد «علم العقائد» لن يكون إلا بالتوجه نحو مجال تداولى مختلف لتأسيس خطاب عقائدى جديد، هو «فلسفة الدين» كمجال معرفى يعتمد منهج العقلانية النقدية المحكومة بمعايير العقل البرهانى لا العقل الجدلى.
إن فلسفة الدين ليست علم كلام جديداً، لأن مشكلة كلام الله (قديم أم محدث؟) ماتت مثل غيرها من مشكلات العصور القديمة؛ ولأن مناهج علم الكلام باتت خارج التاريخ.
ويكمن جزء من أهمية فلسفة الدين لحل مشاكل التطرف والتكفير والتفرق فى عصرنا، فى كونها تبحث عن «جوهر الدين» و«مقاصده الكلية»، و«المناطق المشتركة» التى تجمع ولا تفرق، والتى تحسّن علاقاتنا بأنفسنا وبديننا، وتحسّن علاقتنا بالله والعالم، وتحسّن علاقتنا بأمتنا ووطننا.
وكما أوضحت فى المقال السابق، فإن فلسفة الدين» لم تبدأ كعلم دقيق من حيث الموضوع والمنهج والنسق إلا فى نهاية القرن الثامن عشر فى الغرب وليس قبل ذلك. وعلى الرغم من أن كثيراً من الفلاسفة لهم مواقف محددة من الدين، سواء عند اليونان أو فى الفلسفة الإسلامية أو الفلسفة المسيحية واليهودية فى العصور الوسطى، فإن هذه المواقف لا ترقى لكى تشكل بحثاً منهجياً ومنظماً ونسقياً فى فلسفة الدين وفق المعنى العلمى الدقيق لفلسفة الدين. وإنما كانت تلك مواقف متناثرة، ولا تخرج عن كونها علم كلام أو لاهوتاً أو ميتافيزيقا فى بعض الأحيان، أو نقداً لجانب معين من الدين فى أحيان أخرى. والأمر هنا شبيه بنشأة «علم المنطق» مع أرسطو، فهو لم يخترعه من عدم، حيث كانت هناك إسهامات منطقية سابقة عليه سواء فى الشرق أو الغرب، لكنها كانت إسهامات متناثرة ومختلطة بمبحث نظرية المعرفة وغيرها من المباحث الفلسفية. وجاء أرسطو فجعل المنطق مبحثاً فلسفياً مستقلاً، ومجالاً معرفياً محكم المنهج ومحققاً لشروط العلم. وهو بالضبط ما فعله كانط مع فلسفة الدين، لا سيما أنه فحص الحقائق الدينية فحصاً عقلانياً حراً، وحلل نقدياً الدين من حيث هو دين، وتجنب طرق اللاهوت وأغراضه. وعلى المستوى العربى، لم يصدر عمل أكاديمى يحدد فلسفة الدين كحقل معرفى مستقل له موضوعه ومناهجه قبل سنة 1993م، وهو عام اعتماد «المعقول واللامعقول فى الأديان بين العقلانية النقدية والعقلانية المنحازة»، وتلاها كتاب آخر عام 1994، هو «مدخل إلى فلسفة الدين»، كأول مدخل أكاديمى باللغة العربية عن «فلسفة الدين» بوصفها حقلاً معرفياً له «موضوع» و«منهج» مكتمل المعالم والتحديد المنهجى. وهو الكتاب الذى تم تدريسه عندما تم إدخال «فلسفة الدين» كمقرر يدرّس لأول مرة لطلاب قسم الفلسفة فى جامعة القاهرة، وتلتها جامعات مصرية وعربية أخرى فأدرجت «فلسفة الدين» ضمن مقرراتها، كما قررت الكتاب نفسه على طلابها. بالإضافة إلى العديد من المؤلفات الأخرى حول الحقل نفسه، مثل: «تطور الأديان»، و«للوحى معان أخرى»، و«أقنعة ديكارت العقلانية تتساقط»، و«الحد الأدنى المشترك بين الأديان والفلسفة»، وغيرها من الأبحاث الأكاديمية. وتوالت الطبعات الشرعية وأيضاً الطبعات غير القانونية والمزيفة على الإنترنت لهذه الكتب عبر السنوات الماضية، وانبثقت منها العديد من الرسائل والأبحاث الأكاديمية. (لمزيد من التفاصيل يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى كتابنا: «مدخل إلى فلسفة الدين»).
ويبدو لى أن هذا العلم يجب أن يخرج من جدران المدرجات الجامعية إلى الرأى العام، فإذا كان الغزالى يرى «إلجام العوام عن علم الكلام»، فإن العبد الفقير يرى أن فلسفة الدين يجب أن تشيع بين الناس، فهى ليست علماً مضنوناً به على غير أهله، بل هى علم للجميع، وإذا لم تصل مفاهيمها إلى الناس فلن يتغير الخطاب الدينى. وربما يكون من الصواب الآن تحويل علوم الخواص إلى الرأى العام، أملاً فى تغيير طرق التفكير فى الدين، وتطوير لغة الخطاب ومفاهيمه، ولو على المستوى البعيد.
هذه كانت بعض الذكريات، شىء ما دفعنى إلى تقديمها للقراء، وإذا كانت تشتمل على نوع من الذاتية أو الجفاف العلمى، فلربما تكون مبيّنة لجانب من تاريخ مجال أظن أننا بحاجة للنظر فيه كبديل لعلم الكلام، هو مجال فلسفة الدين الذى يحكِّم العقل النقدى، ذلك العقل الذى وجّه إليه القرآن الكريم، وبنى عليه أحكامه؛ فالعقل ذكره القرآن دوماً كفعل جدير بالثناء، ولا أجد آية واحدة أشارت إلى فعل التعقل إشارة ذم، ويأتى النقد فى آياته دوماً للهوى والأهواء وعدم التعقل.