من أكثر المشاهد المحيرة في حياة المسيح، كما رواها القرآن الكريم، المشهد الختامي في حياته، عليه السلام. فبعد حياة عامرة بالكفاح والنضال في مواجهة ضلالات بني إسرائيل، تواطأ حكام الرومان مع العصاة على التخلص من المسيح. لقد خشي الجميع من الرسالة التي جاء بها، والتي تمهد لخروج البشر من حالة الغيبوبة والتيه التي يعيشون في ظلها، ليحيوا لحظة استفاقة يدركون فيها الضلال الذي يغرقون فيه ويحاولون الانفلات منه.
إنه المشهد الذي تلخصه الآية الكريمة التي تقول: "إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا".وقف المفسرون المسلمون متحيرين أمام معنى كلمة "متوفيك"، فالسائد في العقل والوجدان المسلم أن بني إسرائيل لم يتمكنوا من قتل المسيح، وأن الله تعالى أنقذه منهم ورفعه إليه، لكن كلمة "متوفيك"، التي اشتملت عليها الآية الكريمة، لا تدل على ذلك، بل تشير إلى أن الله تعالى توفى المسيح أولاً، ثم رفعه إليه، وتوزعت جهود المفسرين لتبديد هذه الحيرة في ثلاثة مسارات، المسار الأول وهو تأويل معنى الوفاة على أنها تعني النوم، والمسار الثاني أن معنى الوفاة في الآية حقيقي ولا يدلل على النوم، لكنهم تأولوا على توقيت حدوثها، والمسار الثالث يتبنى أصحابه وجهة نظر تذهب إلى أن المسيح عليه السلام توفي، ثم رفعه الله إليه (توفي ثم قام).أصحاب المسار الأول في التفسير يذهبون إلى أن الوفاة في الآية الكريمة مقصود بها "وفاة النوم"، أو "الميتة الصغرى"، اعتماداً على نظرية أن القرآن يفسر بعضه بعضاً.
والله تعالى يقول في كتابه الكريم: "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار".. ويقول: "الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون".بناء على ذلك ذهب "الطبري" و"ابن كثير" إلى أن الوفاة هنا كانت تعني النوم، وأن الله تعالى أنام المسيح ثم رفعه إليه، وهو استخلاص محير، لأن الأولى أن يقال أن الله رفعه إليه نائماً، وليس أنامه ثم رفعه. والغريب أن بعض المفسرين الذين تبنوا هذا الطرح يرفضون فكرة أن تكون حادثة الإسراء والمعراج "رؤيا منامية" وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم، وتأولوا على الآية الكريمة التي تقول: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس".
وقال البعض أن المقصود بها رؤيا فتح مكة: "لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين".. وقد اقترنت الفتنة بحادثة الإسراء والمعراج أكثر من فتح مكة.ظني أن تفسير كلمة "متوفيك" بمعنى "منيمك"، والطرح الذي يذهب إلى أن الله تعالى أنام المسيح عليه السلام ثم رفعه، يحتاجان إلى إعادة تفكير.. فمعنى الوفاة في الآية الكريمة لا يدل على الإنامة، خصوصاً وأن هناك آية كريمة ورد فيها الحديث عن موت المسيح بشكل مباشر وصريح.. والله تعالى أعلى وأعلم.