«فإنه لى» جملة من حديث قدسى شريف يرويه النبى، صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة سبحانه وتعالى أنه قال: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزى به». (متفق عليه) ومع أن الأعمال الأصل فيها أنها كلها لله، كما قال سبحانه: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاى وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ». [سورة الأنعام الآيتان (162 - 163)] إلا أن استثناء الصيام بهذه الخصوصية يحمل دلالة مختلفة ومعانى متباينة، ويكفى المسلم من الأجر أن يعلم أن الصوم لله وهو سبحانه المتكفل بالجزاء عنه.
هناك حديث يسمى «حديث جبريل»، وهو حديث جمع مقاصد السنة، وبالتحديد جمع مقاصد خلقنا، أى عندما يسأل أحد ما: لماذا خُلِقنا؟ سنجد هذا الحديث يجيب عن أننا خُلِقنا لثلاثة مقاصد، هى:
- المقصد الأول: سنجده فى سؤال سيدنا جبريل عن الإيمان فاستخرج العلماء من هذا السؤال أننا خُلِقنا من أجل مقصد اسمه «العبادة»، والعبادة هنا معناها الخضوع والاستسلام لله، أى أن نكون عبيداً.
- المقصد الثانى: أتى من سؤاله عن الإسلام، فاستخرج العلماء منها مقصداً اسمه مقصد «العمران»، وهو أن تكون فى حالة صلاح وفى حالة نشر للخير وفى حالة تنمية وفى حالة رخاء وفى حالة فعل لكل ما يجعل الناس فى حالة سعادة، إذاً العمران أحد أركان السعادة كما أن العبادة أحد أركان السعادة.
- المقصد الثالث: هو مقصد التزكية، وهذا مأخوذ من السؤال الثالث عن الإحسان، وكان حضرة النبى، صلى الله عليه وسلم، قد أجاب عن الإحسان وهنا أصبح لدينا مقصد ثالث.
فإذا نظرنا إلى تلك المقاصد الثلاثة، سنجد أنها: مقصد بين الإنسان وربه وهو العبادة، ومقصد بين الإنسان وغيره، وهو العمران، ومقصد بين الإنسان ونفسه وهو التزكية.
تلك المقاصد الثلاثة واضحة جداً فى الصيام، أما جانباً العبادة والتزكية ففى أشد درجات الوضوح، إذ الصوم عبادة بين العبد وربه، فهو لله ويجزى به سبحانه وتعالى، كما أن له مردوداً على سلوك الإنسان فى التعامل مع الآخر، وذلك واضح فى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّى امْرُؤٌ صَائِمٌ، وَالَّذِى نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ، وَإِذَا لَقِى رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ» [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أما مقصد العمران فى الصيام فله جوانب متعددة لعل من أبرزها بناء الذات وتحقيق الاتزان، ولعل فى إصلاح النفس بالصيام أثراً عظيماً فى إخراج جيل واعٍ بالتحديات قادر على مواجهتها، ولعل ذلك ما تحقق لجيل نصر أكتوبر 1973م، رمضان 1393هـ.
إن هذه الثلاثية تندمج اندماجاً متناسقاً مع ما هو مشهور من أن رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، بهذه الثلاثية نحن نريد أن نخرج من رمضان كيوم ولدتنا أمهاتنا، وهذا لن يكون بالتمنى ولكن يكون بالحضور والعيش مع الله، ولذلك نحن لدينا ثلاثة أجزاء فى رمضان، وكأن هذا يقول لنا: إن رمضان رحم ندخله لكى نولد من جديد.
وكأن هذا يذكرنا بالميلاد، ولذلك سنحاول أن نعيش الميلاد الجديد على عين الله، ومع الله، تحقيقاً لمراد النبى، صلى الله عليه وسلم، لما قال: «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده» بحيث تنعكس العبادة على حياتنا فيصبح الصيام فعلاً «فإنه لى».
*أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية