أعترف أننى قضيت فترة ليست بالقصيرة من عمرى الذى قارب على الخمسة عقود ولا أملك تصوراً واضحاً لما يُعرف بمنظومة الجمعيات الأهلية فى مصر.. بل ولا أعرف كيف تُدار الأمور داخلها ولا كيف يتم تمويل المشاريع التى تتبناها وتعلن عنها فى إعلاناتها السنوية خلال شهر رمضان تحديداً..!
كل ما كنت أعرفه عنها أننى أتعجب من كمّ الإعلانات التى تدعو المواطن البسيط للتبرع بأى شىء.. وأتعجب أكثر من أن معظم المشاريع التى تدعو إليها تلك الإعلانات تتعلق بالرعاية الصحية تحديداً.. حتى كان ذلك اليوم الذى حالفنى الحظ فيه وزرت مستشفى سرطان الأطفال ٥٧٣٥٧ للمرة الأولى.. تلك الزيارة التى نجحت أن تغير لدىّ الصورة الذهنية للعمل الخيرى المؤسسى بشكل كامل.. وجعلتنى أتحول من جبهة المعارض إلى جبهة المؤيد شديد الحماس..!
كانت زيارة أدركت بعدها ما تفعله باقى الجمعيات الخيرية ومنظمات المجتمع المدنى كحياة كريمة والأورمان ومصر الخير وأهل مصر وغيرها.. أدركت قيمة ما تقدمه تلك الهيئات.. وحجم مساهمتهم، بجوار الحكومة، فى مساعدة غير القادرين..!
أكثر من 6٫5 مليار جنيه هو حجم تبرعات المصريين لكل الجمعيات الأهلية سنوياً حسب دراسة أجراها مركز معلومات مجلس الوزراء حول العمل الخيرى للأسر المصرية، وهو مبلغ تدفق من 15.8 مليون أسرة مصرية يشكلون 86% من إجمالى عدد الأسر على مستوى مصر..!
أرقام عظيمة إن دلت على شىء فهو حجم الخير فى قلوب المصريين.. وتؤكد أن التكافل صفة متأصلة بداخلهم ولو أنكر البعض أنها موجودة.
الرقم يبدو مهولاً بالفعل.. ولكن إذا وضعنا بجانبه أنه يخدم أكثر من عشرة ملايين مواطن لا تتمكن الحكومة من الوصول إليهم.. وأن أوجه الصرف يتم مراقبتها بكل وضوح ودقة من وزارة التضامن الاجتماعى والرقابة الإدارية.. سندرك أنه منطقى.. وسندرك أننا نحتاج أضعافه لتغطية العديد من الاحتياجات لأبناء هذا الوطن فى ظل هذه الظروف الاقتصادية العسيرة على الجميع..!
الطريف أن شهر رمضان تحديداً قد أصبح الموسم السنوى للجدل حول قيمة هذه الجمعيات وأهمية التبرع لها.. بل أصبح الميعاد المتكرر للنقاشات حول أحقية جمعية دون الأخرى بالتبرع. فالبعض يدعو لمقاطعة الأورمان لصالح مصر الخير.. والبعض الآخر يرى أن مركز الدكتور مجدى يعقوب أحق من مستشفى سرطان الأطفال ٥٧٣٥٧.
الكل يحاول أن يوجه لمكان ما بتوجيه الانتقاد لمكان آخر.. ودون أن يدرك أن كل الأماكن تحتاج.. وأن تبرعك لمكان لا يحتاج بالضرورة أن ترفض الآخر..!
لقد كان الإعلان عن إطلاق التحالف الوطنى للعمل الأهلى والتنموى منذ سنوات أفضل ما تم إنجازه فى هذا المجال من وجهة نظرى.. فقد أصبح هذا الكيان منظماً للعمل بين المؤسسات بشكل كبير.. وأصبح الجهد المبذول من الجميع منظماً غير متداخل.. وما يتم إنفاقه بات موزعاً بين أوجه الإنفاق بشكل أكثر اتزاناً.. وكانت مبادرة «كتف فى كتف» التى تمت فى العام الماضى خير دليل على هذا التنسيق..!
ينبغى أن ندرك جميعاً ما يقوم به المجتمع المدنى فى مصر.. ينبغى أن نعرف أنه يصل إلى ما لا يمكن للحكومة أن تصل إليه ولو بعد أعوام طويلة.. ينبغى أن نساعد هؤلاء الذين يخدمون قطاعاً عريضاً من الناس..!
إن ما تقدمه منظمات المجتمع المدنى فى مصر لهو خير دليل على أن هذا الوطن كان ولا يزال وطن الخير.. وأن هذا الشعب النقى المحب للمساعدة هو صمام الأمان الذى يحفظ هذه الدولة.. مهما عانى من صعاب.. ومهما قست عليه الظروف.. أو هكذا أعتقد..!