إن «الرؤية اللاهوتية غير العلمية للعالم» تجد أقوى زخم لها فى التقليد والاتّباع الأعمى، وفى زعم امتلاك الحقيقة المطلقة فى الدين والفقه والتفسير والسياسة. وسبب أصيل من أسباب حالة التراجع العامة، والتطرف الدينى والسياسى يكمن فى هذه الرؤية المحكومة بالتقليد والتبعية المطلقة -دون عقل نقدى- لبعض العلماء أو الدعاة، والطاعة العمياء لقادة الجماعات، والحفظ دون العقل، دون تحمل مسئولية التعامل المباشر مع القرآن والسنة الصحيحة. وذلك فى حالة غريبة من مخالفة التعاليم القرآنية الواضحة، وتوجيهات النبى الحاسمة التى ترفض التقليد واتباع ما سوى الله ورسوله!
وهذا أمر يدخل فى لب مفهوم الدين، وفى التعامل الخاطئ مع هذا المفهوم، فمن معانى الدين «الطاعة»؛ حيث تؤخذ كلمة الدين -من بين ما تؤخذ- من فعل متعدٍّ باللام «دان له»، أى خضع له وأطاعه، ولذا فإن اللغويين يذكرون من معانى الدين «الطاعة»، يقول الرازى: «الدِّينُ أيضاً الطاعة، تقول: دَانَ له يدين دِيناً، أى أطاعه». ولذلك فإن الجرجانى فى «التعريفات» رأى أن الشريعة تسمى ديناً لأنها تُطاع، يقول: «الشريعة من حيث إنها تُطاع تسمى ديناً».
والإشكالية الكبرى هنا: طاعة مَنْ؟ طاعة الله ورسوله مباشرة دون وسيط، أم طاعة عبر وسيط؟
نصوص القرآن والسنة الصحيحة واضحة فى طاعة الله ورسوله مباشرة دون وسيط من رجال الدين أو الكهنوت أو المتحدثين باسم الحقيقة المطلقة من أى نوع، لكن شيوخ وقادة عصور التراجع يؤولون النصوص ويفسرونها بما يضمن لهم التدخل كوسطاء بين عامة المسلمين والإسلام! ومن تلك اللحظة التى نجحوا فيها فى السيطرة على عقول الناس، دخلت الحضارة الإسلامية فى حالة تراجع أمام العالم كله. وعلى الرغم من هذه النتيجة السيئة فلا أحد يستطيع أن يستنبط أن هذه أفكار باطلة، بدليل أن النتائج الملموسة فى الواقع شديدة الوضوح على وجود خلل! ولا يسأل أحد منهم سؤالاً واضحاً وبديهياً: إذا كان ما أؤمن به من أفكار بعض الزعماء الدينيين يأتى دائماً بنتائج سلبية فى الواقع، أليس هذا دليلاً على بطلانها؟
ألم أقل لك عزيزى القارئ من قبل: إنها عقول مغلقة لا ترى حولها، عقول تربت على الطاعة العمياء للآباء والمتحدثين باسم الله، عقول منفصلة عن الواقع المعيش ومنفصلة عن القرآن والسنة الصحيحة؟!
إن الطاعة كجزء أصيل من مفهوم الدين هى طاعة للقرآن والرسول مباشرة، وليس طاعة لأى متحدث باسمهما، فلا أحد يحمل «صكاً إلهياً» يستوجب الطاعة؛ لأن المسئولية فى القرآن الكريم مسئولية فردية وشخصية، ولا يجوز أن يرمى الشخص مسئولية ما يفعل على شخص أفتاه أو أرشده؛ فالإسلام ضد التبعية العمياء، يقول القرآن الكريم: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ. إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ» (البقرة: 165-167).
إذن واضح أن الإسلام نبذ التقليد والاتباع الأعمى، وحمّل كل فرد المسئولية بشكل شخصى؛ فهو المسئول عن اختياره، وهو المسئول عن قراره، والمرجعية فقط هى مقاييس الحق، وليست أقوال الرجال، حتى ولو كانوا فى حجم وقامة الأئمة الأربعة أو غيرهم من القامات التاريخية. ولذلك يقول صديق حسن القنوجى فى كتابه «أبجد العلوم.. الوشى المرقوم فى بيان أحوال العلوم»: «الأئمة الأربعة منعوا الناس عن تقليدهم، ولم يوجب الله سبحانه وتعالى على أحد تقليد أحد من الصحابة والتابعين الذين هم قدوة الأمة وأئمتها وسلفها فضلاً عن المجتهدين وآحاد أهل العلم.. لأن التقليد من صنيع الجاهل».
وعلى الرغم من موقف القرآن الحاسم من قضية التقليد، وموقف علماء الأمة الأوائل، فإن المتعصبين يتحدثون كما لو كان موقفهم قائماً على براهين محكمة ونهائية! أى أنهم يخدعون غيرهم، بل ويخدعون أنفسهم دون أن يشعروا، بأنهم أصحاب الحق فى اتّباع رجال بعينهم بوصفهم حاملى أختام الحقيقة المطلقة ذات البراهين المحكمة، مع أن براهينهم مليئة بجوانب الخلل التى تدل عليها النتائج السيئة فى الواقع المعيش!
وما هذا إلا لأن «الرؤية اللاهوتية للعالم» تنطوى على موقف «منغلق» غير قائم على التفكير النقدى، ومن ثم لا يستطيع المتعصب أن يخرج وراء ذاته فيرى عيوب تفكيرها. إن هذا الموقف متهافت، خاصة أن أصحابه يؤكدون معتقداتهم غالباً بسلطة الآباء أو القدماء أو قادة الجماعة دون برهان عقلى، ودون مراعاة الظروف المتغيرة، ودون أى احتمال لكونها ناقصة أو خاطئة أو معارضة للنصوص القرآنية المحكمة وقطعية الدلالة!
ومن هنا فالمطلوب هو تجديد فهم المسلمين للدين، عن طريق ثورة فى التعليم والإعلام، حتى تحل الرؤية العلمية للدين والعالم محل الرؤية اللاهوتية السحرية القائمة على النقل والحفظ والاتباع الأعمى للذين وضعوا أنفسهم كوسطاء بين الإنسان والله، وبين المسلم والقرآن، وبين الأمة ورسولها الكريم.