من الخطوات اللازمة لتغيير «رؤية العالم Worldview» الجهولة التى أنتجت كل الظواهر السلبية عند المسلمين المعاصرين، تغيير طريقة إدراك المسلمين لـ«مفهوم الدين»؛ لأن المسلمين، شئنا أم أبينا، تتكون عندهم رؤية العالم من خلال الدين، حتى لو كانوا مُفْرِطين أو مُفرِّطين فى الدين.
وهذا التغيير لا يمكن أن يتم دون تغيير «مفهوم الدين» فى عقولهم؛ لأن المفهوم هو شرط أوّلى قَبْلى بلغة الإبستمولوجيا أو نظرية المعرفة، وأى تجديد لاحق لطرق فهم العقائد والشرائع وفق معناها النقى سيفشل فشلاً ذريعاً إذا لم يكن المفهوم الكلى للدين منضبطاً فى عقول الناس، فالمفهوم الكلى الأوّلى يلوّن كل ما يتلوه بلونه الخاص، فهو بمثابة العدسة التى ينظر منها المرء، فإذا كانت حمراء سيرى كل شىء أحمر، وإذا كانت صفراء سيرى كل شىء أصفر، وإذا كانت سوداء سيرى كل شىء أسود! وهكذا.
إن مفهوم الدين هو ببساطة «المعنى العام» للدين، فما المعنى الذى يسود فى عصور التخلف والتراجع؟ وما المعنى النقى الذى يجب أن يسود إذا أردنا تجديداً حقيقياً للخطاب الدينى وتغييراً حقيقياً فى مسلمى المستقبل؟
المعنى الضيق للدين هو أنه مجموعة من الطقوس والشعائر إذا أداها المرء ضمن الخلاص ودخول الجنة حتى لو أهمل فى عمله أو خدع الناس أو خان أو كذب أو مشى بالنميمة (وفى عصرنا: حتى لو انتخب بالباطل أو قتل أو حرق أو دمر أو نهب أموال الشعب أو الحكومة أو الدول الأخرى أو أصحاب الديانات أو الآراء المخالفة). فأداء بعض الشعائر عند المخادع لنفسه يمكن أن يطهره من كل الحقوق التى نهبها أو أضاعها أو تعدى عليها، لا فرق عنده بين الحق الخاص والحق العام ولا حتى حق الله! فبمجموعة من الطقوس يُمكن -فى تصوره- أن يُرضى الله!
إن هذا المخادع يتصور أن الدين شىء والمعاملات شىء آخر، الدين مجرد نوايا وأقوال ومظاهر، وهذا المخادع ليس هو فقط المتزمت الجهول الذى يزايد على خلق الله، بل هو أيضاً الفنان المفرط الذى يعتبر الدين مجرد عمل قلبى، وهو أيضاً المجاهد الزائف الذى يعتبر الدين قتلاً وسفكاً وإجباراً على الإيمان، وهو أيضاً رجل الدين الذى يتعامل مع الدين كوظيفة و«سبوبة»، وهو أيضاً متصوف عصور التراجع الذى يعد الدين مجرد حلقة ذكر، وهو أيضاً الإعلامى الذى يرى فى الدين مادة خصبة للإثارة!
وتجديد الخطاب الدينى بالمعنى الذى نفهمه لا بد أن يقوم على تغيير فهم المسلمين للدين، وهنا سوف نكتشف أن تجديد «مفهوم الدين» ليس تجديداً بقدر ما هو عودة إلى المعنى الأصلى للدين قبل أن يتلون بثقافات بدائية وعقول مغلقة ونفوس مخادعة وجماعات تطلب السلطة بالدين وترفع المصاحف على السيوف لحسم صراع الكراسى والنفوذ والغنائم!
إن تجديد «مفهوم الدين» إذن يكون بالرجوع إلى المعنى الأصلى للدين، وهذا المعنى لا يمكن الوصول إليه إلا بتحليل فلسفى لمفهوم الدين فى علوم اللغة والنفس والاجتماع، وأيضاً فى تاريخ الفلسفة التى اقتربت من الدين أحياناً، وابتعدت عنه أحياناً أخرى، وعادته فى قطاع منها، واحتضنته فى قطاع آخر. وأخيراً تحديد مفهوم الدين فى النص الدينى ذاته، أى كيف يحدد الدين ماهيته بنفسه؟ وماذا يقول عن نفسه؟ وكيف يرى ذاته فى مرآته هو لا فى أى مرآة أخرى؟!
إن إحدى مهام تجديد الخطاب الدينى تستلزم تعيين وتحديد جوهر وماهية الدين من حيث هو دين، ومن ثم معرفة وظيفة الدين وتخليصه من النظرة الجزئية والضيقة وأيضاً من الاستغلال السياسى أو الاجتماعى.
ولن نصل إلى هذا الهدف من طريق قصير، بل عبر طريق طويل بعض الشىء من التعقب والتحليل.
ولنبدأ بتحليل فلسفى للمفهوم اللغوى للدين، وأرجو أن يتحملنى القارئ بعض الشىء، فليست هذه المقالات للاستهلاك الصحفى، وإنما هى رغبة حقيقية فى تغيير معان راسخة فى عقول تكونت فى مدارس التقليد والاتباع الأعمى، وتم تربيتها على السمع والطاعة وإلغاء العقل، وتحصيل «المعلومات المعلبة».
عرّف الرازى الدين لغوياً فقال: «الدِّين بالكسر: العادة والشأن. ودَانَهُ يدينه دِيناً بالكسر: أذلّه واستعبده، فدان. وفى الحديث: «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت». والدِّين أيضاً: الجزاء والمكافأة، يقال: دان يدينه دِيناً أى جازاه، يقال: «كما تُدِينُ تُدَانُ»، أى كما تُجازى تُجازَى بفعلك وبحسب ما عملت. وقوله تعالى: (أَإنَّا لَمَدِينُونَ) أى لمجزيون محاسبون. ومنه: الدَّيَّانُ فى صفة الله تعالى. والمَدِينُ العبد، والمَدِينةُ الأمة، كأنهما أذلهما العمل، ودَانَهُ ملكه، وقيل: منه سُمى المصر مَدِينةً. والدِّينُ أيضاً الطاعة، تقول: دان له يدين دِيناً، أى أطاعه. ومنه الدِّينُ. والجمع الأَدْيَانُ. ويقال: دَانَ بكذا دِيَانَةً، فهو دَيِّن، وتَدَيَّنَ به، فهو مُتَدَيِّنٌ، ودَيَّنَهُ تَدْيِيناً: وكله إلى دينه».
وإذا حللنا فلسفياً هذا التعريف اللغوى للدين، فماذا يمكن أن نجد؟
هذا موضوع المقال المقبل إن شاء الله تعالى.