فى شهر مارس من عام 2012 تلقيت دعوة من الأستاذ مجدى الجلاد -رئيس تحرير «المصرى اليوم» آنذاك- لإعداد تصور عام لجريدة جديدة ستصدر خلال أسابيع، تختلف فى سياستها التحريرية عن كل الصحف اليومية الموجودة على الساحة الصحفية فى مصر، وأتذكر الآن مشاعر الدهشة التى انتابتنى عندما علمتُ أن مجدى الجلاد ومحمود مسلّم والدكتور أحمد محمود قرروا مغادرة «المصرى اليوم» والشروع فوراً فى تأسيس جريدة جديدة!.
كان الباعث على الدهشة أن «المصرى اليوم» كانت قد تربعت على قمة الإصدارات الصحفية المصرية، تحريراً وتأثيراً وتوزيعاً، وتمكنت عبر جهود جبارة وتدريب متواصل، من شغل مساحة شاسعة من اهتمام الرأى العام، ولم يعد هناك مسئول أياً كان موقعه بإمكانه أن يتجاهلها أو يُسقطها من حسابه. والحال كذلك، بدت لى هذه المخاطرة نوعاً من الجنون.. أو قفزة غير محسوبة قد تنتهى بخسارة كل شىء دفعة واحدة. وآنذاك كان السؤال الأكثر إلحاحاً على عقلى: كيف لهؤلاء الذين ساهموا فى صنع مجد صحفى غير مسبوق أن يغادروه بمحض إرادتهم ليبدأوا تجربة جديدة من الصفر؟!.
فى الموعد المحدد لعرض تصورى الشخصى أمام اللجنة التأسيسية للجريدة الجديدة، وجدت نفسى فى قلب مغامرة مفحمة بالتحدى والشغف، وأيقنت أنه لا يوجد فى هذه الحياة ما هو أصعب من أن تتحدى نفسك، وأن تتجاوز نجاحاتك السابقة مهما بلغ توهجها، وعلى امتداد عدة أسابيع كان شاغلنا الأهم هو ألا نُعيد إنتاج نسخة أخرى من «المصرى اليوم».
كانت مصر عام 2012 مسرحاً لفوضى عارمة، وكانت السياسة بحراً من الرمال السائبة، وكنا نصحو صباح كل يوم على ميلاد ائتلافات سياسية جديدة وتفتت جبهات سياسية قائمة، وتحالف أحزاب لا تجمعها رؤية موحدة، وكانت الأرض قد انشقت عن مارد جبار فارداً طوله المرعب والمخيف على الميادين والصحف والقنوات والمساجد والشوارع.. وكان هذا المارد يتشكل من عشرات الجماعات التكفيرية والسلفية والجهادية التى وضعت كل من ليس معهم فى خانة «العدو» الذى ينبغى استحلال ماله وعِرضه ودمه.
وكان علينا أن نحدد موقفنا منذ البدء: من نحن؟ وماذا نريد؟. والأهم كيف سنشق طريقنا وسط هذه الأدغال الموحلة وكل خطوة قد تصطدم بلغم أو برصاصة غادرة أو بشعلة نيران تحرق المكان بمن فيه؟! منذ الوهلة الأولى قررنا أن نكون صوت المواطن، وأن نذهب إلى كل شبر فى خريطة مصر، لا فرق بين عزبة وكفر أو منتجع، ولا فرق بين قرية أو مدينة، فالوطن «قوته فى ناسه».. وليس فى هذه الائتلافات والجبهات والجماعات التى ملأت الفضاء السياسى زعيقاً وصراخاً وهتافاً وأوقفت عَجلة الإنتاج والحياة، حتى تتحقق لها كل هذه المطالب العجيبة التى كان نصفها يتعارض تماماً مع نصفها الآخر!.
كان تقديرنا آنذاك ألا نرفع سقف توقعاتنا فى التوزيع حتى لا نصاب بالإحباط، وكان كل منا لا يريد فى البدء غير أن نوزع يومياً نحو 30 ألف نسخة خلال الشهر الأول من الصدور، وحتى مع نفاد الكميات المطبوعة من العدد الأول واقترابها من سقف المائة ألف نسخة، كان تقديرنا أن العدد الأول غالباً ليس مؤشراً ثابتاً على توزيع الجرائد فى الأيام التالية ولا ينبغى أن نقيس عليه. بعد العدد الأول تراجع التوزيع قليلاً فعلاً، ولكن خلال أيام معدودة راح «الوطن» يزحف بثبات نحو سقف المائة ألف نسخة يومياً. وبعد أسابيع بات واضحاً أن «الوطن» أصبحت رقماً لا يمكن تجاهله فى شارع الصحافة المصرى، وتحولت إلى مقصد عام لكل من لديه مظلمة أو رؤية ناصعة.. واجتذبت أكفأ المحررين وكُتَّاب الرأى، وأصبحت مساحات الرأى فيها أمل معظم الكتاب الكبار فى مصر، ولكنها أيضاً أصبحت هدفاً لميليشيات البلطجية المأجورة ولسعار الجماعات المتطرفة، وتعرض مقر «الوطن» مرات لهجوم ضار بالنار والرصاص من مجهولين ومعلومين وضعوا رئيس تحريرها وبعض كوادرها الفاعلة على قوائم الاغتيال التى كان يتم الإعلان عنها بين فترة وأخرى.
كثيرون وقفوا أمام هذه التجربة الكبيرة فى تاريخ الصحافة المصرية.. وحاولوا وضع أيديهم على «سر الطبخة» التى ضمنت لها النجاح والوصول إلى القمة بأقصى سرعة، وأنا واحد ممن فكروا كثيراً فى هذا الأمر، ورغم أننى كنت واحداً ممن شاركوا فى إطلاقها، والآن وبعد مرور عشر سنوات كاملة من هذه التجربة الممتعة لا أجد غير تفسير بسيط يتلخص فى وجود إدارة تحرير شاغلها الأهم هو استقطاب أعلى المواهب والكفاءات، ومنح كل صاحب موهبة أو كفاءة كل الإمكانات والصلاحيات لعزف ألحانه دون إعاقة أو حقد، وصحيح أن أى تجربة إنسانية لا تخلو إطلاقاً من مرضى عقليين ونفسيين يحاولون دائماً تعكير مناخ العمل بدناءات وضيعة، ولكن وجود تيار عام غالب يتصدى بحنكة لهؤلاء المرضى، هو الضمان النهائى لإتاحة مناخ عمل تتنفس فيه كل المواهب وتتفتح فيه كل الزهور. بقيت إضافة شديدة الأهمية فى هذا المجال، أعود إليها بين فترة وأخرى، شاعراً بالامتنان تجاه كل من ساهم فى وجودى ضمن إدارة تحرير هذه التجربة الفريدة، وهى إضافة تتعلق بعملى لسنوات عديدة إلى جوار زملاء وأصدقاء مثل مجدى الجلاد والراحل المبدع محمود الكردوسى ومحمود مسلّم والدكتور أحمد محمود والدكتور محمود خليل.. وكل منهم تعلمت منه واتسعت خبراتى واغتنت بفيض من المهارات لمجرد أننى كنت إلى جوارهم فى واحدة من أهم تجارب الصحافة المصرية.