هدأت عاصفة السخط العام على خروج المنتخب المصرى من التصفيات المؤهلة لكأس العالم 2022، وتراجعت أو توارت إلى حد كبير الحسرات التى فاضت بها وسائل التواصل الاجتماعى وبرامج الفضائيات، وتكاثرت إلى حد التخمة مبادرات تشخيص أسباب الخلل، وباستثناء آراء شخصية لخبراء ومواطنين عاديين حول الأداء الباهت لهذا أو ذاك من اللاعبين، وتواضع مستوى المدرب، كان هناك شبه إجماع على أن الخلل أوسع وأعمق، وأن فساد منظومة الكرة المصرية وسيطرة المتربحين على كل مفاصلها هو السبب الأكثر حضوراً فى صناعة الفشل التى دمرت الكرة المصرية.
ورغم أننى لست متخصصاً فى تحليل خطط المدرب أو تقييم أداء اللاعبين، فإن كل ما يعنينى وأنا أتابع مباريات المنتخب الوطنى، هو أن أستمتع أولاً بالأداء، وأن ينعكس هذا الأداء الممتع ثانياً على النتائج، وحتى لو حدث وخسر المنتخب مباراة أو أكثر فى ظل أدائه الممتع، فلن تكون الحسرة حاضرة بأى حال من الأحوال، ومثل ملايين من عشاق هذه اللعبة ومن مشجعى منتخبهم الوطنى، سأحزن قليلاً، ولكننى لن أنقلب أبداً على اللاعبين أو الجهاز الفنى، والمؤكد أننى سأعثر على حالات عديدة تعرض فيها الفريق الأكثر مهارة وكفاءة لهزيمة غير مستحقة.
الغياب الكامل للأداء الممتع فى كل مباريات منتخبنا الوطنى، هو السبب الأكثر إنتاجاً لمشاعر سخط عارمة، وحسرات رهيبة على أموال طائلة لم تسفر إلا عن أداء باهت وكسيح ورغم وجود لاعبين موهوبين ضمن منتخبنا الوطنى، فقد كان الواضح جداً لكل المتابعين أن هذه المواهب تتبخر فجأة، ويتحول نجوم كبار -مثل محمد صلاح- إلى قدرات مهدرة وتائهة يدور أصحابها حول أنفسهم طيلة المباراة دون أدنى فاعلية، والمؤلم حقاً أن الإحباط الذى تسبب فيه أداء المنتخب انعكس أيضاً على أداء محمد صلاح مع فريق ليفربول!، وهو ما يعنى أن فشل المنظومة الرياضية الوطنية يلاحق نجومنا المحترفين ويخصم من إنجازهم الذى صنعوه بجهد رهيب!
قبل عقدين من الزمان، كنت أظن أن الفساد الذى شاع فى كل مجالات الحياة فى بلدنا، لا يمكن أن يمتد إلى الملاعب بكل تخصصاتها، لسبب بديهى جداً، هو أن الواسطة أو المحسوبية أو الرشوة قد تساعد شخصاً ما على الالتحاق بأكبر نادٍ رياضى فى البلد، ولكن أمره سينكشف فوراً إذا لم يكن موهوباً من الأساس، والحقيقة التى صدمتنى هى أننى اكتشفت أن العكس تماماً هو الصحيح، فهناك عشرات الآلاف من الأطفال والصبية الموهوبين فى كرة القدم تحديداً، ولديهم شغف كبير ودافع أكبر للالتحاق بالنوادى الرياضية والعثور على فرصة تتيح لهم التحقق، ولكن الغالبية العظمى من هؤلاء فعلوا المستحيل وأخذوا بكل الأسباب ولم يصلوا إلى أى شىء، وانهارت أحلامهم على أبواب آلاف المنشآت الرياضية التى لفظتهم دون رحمة، واختارت غيرهم لأسباب أبعد ما تكون عن الاستحقاق العادل.
وخلال العقدين الأخيرين كنت طرفاً لمرات عديدة فى محاولات إلحاق أطفال وصبية موهوبين فعلاً، بعدد من النوادى الرياضية الكبيرة والمتوسطة، وفى كل المرات انتهى السعى بخيبة محزنة، وآلمنى أننى لم أستطع أبداً أن أوثق أى حالة من حالات طلب الرشوة التى تعرض لها أهالى هؤلاء الأطفال، وهى دائماً رشوة لا يستطيعون دفعها إطلاقاً، لأنهم من الأساس مواطنون على فيض الكريم.
إن التجارب والحكايات المحبطة التى تعرض لها عشرات الآلاف من الأشخاص، أصبحت من العلم العام فى المجتمع الرياضى، والرشاوى التى أصبحت تحكم هذا المجال لم تعد أموالاً فقط، ولكنها تخطتها إلى رشاوى أخرى عينية وجنسية أيضاً، وقد أسفر هذا الفساد الرهيب عن حرمان بلد كبير مثل مصر من أن يكون لديها أكثر من ألف لاعب موهوب لا يقل أى منهم كفاءة وانضباطاً عن نجم مثل محمد صلاح، بل من بينهم عشرات وربما مئات يفوقونه موهبة وكفاءة وطموحاً.
ولعل نظرة عابرة على التقرير الأخير الذى أصدره الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء فى ديسمبر 2021، عن المنشآت الرياضية المصرية، يضعنا أمام وضع كارثى؛ فالتقرير يؤكد أن عدد المنشآت الرياضية فى مصر عام 2020 وصل إلى 5157 منشأة، وأن عدد الأندية الرياضية 722 نادياً تضم 15558 فريقاً، وأن عدد اللاعبين فى هذه الفرق يتجاوز 211 ألف لاعب، بينما وصل عدد المدربين إلى أكثر من 11 ألف مدرب.
المنشآت الرياضية -حكومية وشركات عامة وخاصة- أكثر من الهم على القلب، والأندية الرياضية بالمئات والفرق الرياضية بالآلاف، واللاعبون بعشرات الآلاف، ورغم ذلك يبدو واقع كرة القدم تحديداً وكأننا نعانى من فقر مدقع ومن تصحر منتشر، ومن كساح مدمر للطموح، ولو افترضنا أن 5٪ فقط من هذه الإحصاءات تخص فرق كرة القدم، فسوف نجد أنفسنا أمام أعداد ضخمة قادرة على أن تمد منتخبات الناشئين والأولمبى والمنتخب الأول بمئات اللاعبين الموهوبين.. فلماذا لم يحدث ذلك على الإطلاق؟.. لماذا تفتقر نوادينا ومنتخباتنا إلى الحد الأدنى اللائق بنا فى إنتاج مئات الموهوبين وعشرات المحترفين؟!
لقد قرأت الكثير مما كتبه غيرى فى هذا المجال، وطالعت عشرات المساهمات من مواطنين عاديين على صفحات التواصل الاجتماعى، واستمعت إلى العديد من ضيوف الاستديوهات الرياضية.. وكان هناك إجماع على الفساد الذى استشرى فى المنظومة الرياضية بكل مستوياتها، ولا أنكر أبداً أن الفساد مثل الغرغرينا التى تدمر خلايا الجسد ولا يصلح معها أحياناً إلا بتر الأعضاء التى تحللت وتعفنت، ولكننى توقفت أيضاً أمام عاملين فى منتهى الأهمية، لا يمكن أن تقوم للرياضة المصرية قائمة دون الانتباه إليهما والعناية بهما.
العامل الأول هو حالة المدربين المصريين الذين لا يصلحون من الأساس للقيام بهذه المهمة الخطيرة، وهم فى غالبيتهم يحتاجون إلى تعليم مكثف فى مجالهم، وإلى دراسات وخبرات يفتقرون إليها تماماً، وقد أدهشنى أن أسمع عدداً من الخبراء يتحدثون عن انهيار مستوى معظم هؤلاء المدربين، فضلاً عن فسادهم.
العامل الثانى هو الغياب الكامل للكشافين الذين تعتمد عليهم الأندية فى كل بلاد العالم التى حققت إنجازات مذهلة فى صناعة كرة القدم، ومهمة هؤلاء الكشافين أكثر أهمية من لجان اختبار المتقدمين للنوادى، لأن اللجان طيلة العقود الماضية أثبتت أنها حائط عملاق لا يتجاوزه إلا القادرون على دفع رشاوى أو أبناء النجوم والفنيين الكبار العاملين فى هذا المجال. وهناك عشرات الآلاف من أبناء الفقراء الذين يمارسون كرة القدم فى الشوارع والحوارى والأزقة والمدارس الحكومية فى الكفور والعزب والنجوع والقرى، ولا يملك أهاليهم القدرة المادية أو الخبرة اللازمة لطرق أبواب المنشآت الرياضية. وفرق الكشافة بإمكانها أن تلتقط آلاف الموهوبين حقاً وأن تحميهم من عصابات التربح التى تغلق أبواب النوادى فى وجوه من لا يملكون ثمن الالتحاق بها.
المدرب الدارس المؤهل الأمين، وفرق الكشافة، هما البنية التحتية الأساسية التى بدونها لن نصل إلى ما نطمح إليه، وسوف نظل لسنوات طويلة نحتشد بجنون لتشجيع منتخباتنا، ثم لا نحصد فى النهاية غير مزيد من الحسرات إذا استمر حفنة أشخاص يراكمون أموالاً طائلة من أفقر صناعة عرفتها مصر خلال السنوات الأخيرة.. هى صناعة كرة القدم.