كلما قرأت خبراً عن محاولة استعادة إنتاج وصناعة الحرير الطبيعى، وكلما رأيت شجرة توت فى أى مكان، أو شاهدت تجمعات نبات عدس الماء طافياً على سطح مصرف زراعى أو ترعة، تذكرت على الفور الأستاذ الدكتور «م. ع» الذى أذهلنى مرتين: مرة بقدراته المدهشة على تطويع البحث العلمى لحل أعقد مشكلات الإنتاج واكتشاف مواد جديدة شديدة الأهمية فى موارد محلية قديمة.. ومرة بانصرافه الكامل عن البحث العلمى، بل وكفره المطلق بكل ما يمت إلى العلم أو البحوث بأى صلة، ثم باعتكافه شبه الدائم فى مسجد جمعية أنصار السنة!.
تعرَّفت على الدكتور «م. ع» عام 1994، كان آنذاك يشغل موقع رئيس أحد الأقسام فى إحدى كليات الزراعة، وكنت أعمل محرراً فى تحقيقات الأهرام، وكان هو الذى سعى إلى الاتصال بى بعد أن قرأ تحقيقاً أنجزته عن مشكلة البحث العلمى فى مصر، كشفتُ فيه عن الانفصام الكبير بين الزراعة والصناعة والصحة من ناحية، وبين البحث العلمى فى الجامعات ومعظم المراكز البحثية التابعة للوزارات من ناحية أخرى، وأن غياب التعاون بينهما خلق ثنائية عجيبة تتلخص فى وجود أطنان من البحوث العلمية فى كل مجالات الحياة لا يستفيد منها أحد، ووجود مشكلات وأزمات مزمنة فى كل قطاعات الصناعة والإنتاج تهدد بانهيارها إذا لم تسارع بالاستفادة من الحلول التى توفرها البحوث العلمية.
اتصل بى الدكتور «م. ع» بعد أيام من نشر التحقيق فى «الأهرام»، ليخبرنى بصحة كل ما جاء فى التحقيق عن الانفصام بين الصناعة ومراكز البحث العلمى، ثم أخبرنى أن هناك استثناءات ينبغى على الصحافة أن تبحث عنها وأن تلقى عليها الضوء حتى يعلم بها صانع القرار من ناحية، ورجال الأعمال فى القطاع الخاص من ناحية أخرى، ودعانى إلى زيارته فى مكتبه بالكلية ليطلعنى على جانب من هذه الاستثناءات.
اتصلتْ علاقتى بالدكتور «م. ع» لأكثر من ثلاث سنوات، وأنجزتُ عدة تحقيقات عن أبحاثه وأبحاث تلاميذه وتطبيقاتها العملية فى محافظة الغربية وفى أخميم بسوهاج، ورأيت كيف ساهمت الأبحاث العلمية المتقدمة فى تحويل تربية دود القز لإنتاج الحرير، من هواية يمارسها أطفال الريف، إلى زراعة وصناعة متكاملة، تدر أرباحاً كبيرة، وفهمت لأول مرة فى حياتى قيمة «البحوث المشتركة» بين أطراف عديدة وعلماء من تخصصات متباينة، فقد كان الدكتور «م. ع» متخصصاً فى علم الحشرات الاقتصادية، وكان فريق البحث الذى يرأسه يضم باحثين فى مجال تربية أشجار التوت وآخرين فى مجال هندسة المعدات الميكانيكية، وفى مجال أبحاث وأمراض التربة، ثم فى مجال الألياف والنسيج، وقد ظل هذا الفريق يعمل بمنحة كبيرة وفرها لهم وزير الزراعة آنذاك الدكتور يوسف والى، حتى تمكنوا أخيراً من استنباط أشجار توت قزمية تنتج أوراقاً كثيفة، وتحسين سلالات دود القز، واختراع ماكينات حل شرانق دود القز وتحويلها إلى «بكرات» ضخمة من الحرير الطبيعى.
وبعد ذلك تابعت مع الدكتور وفريقه البحثى الممتاز النتائج المبهرة لاستنباط سلالات من «النحل» متخصصة فقط فى زيادة «التلقيح» بين النباتات المزهرة، وهو ما يؤدى إلى مضاعفة الإنتاج من أصناف الفاكهة والخضار، ثم عشت مع الدكتور «م. ع» تجربة من أغنى وأغلى تجاربه وبحوثه التى كان للصدفة دور كبير فيها.
فى صيف عام 1996 كان الدكتور وبعض زملائه وتلاميذه يستقلون «ميكروباص» وفَّرته لهم الكلية لتأدية واجب العزاء فى والد زميل لهم من مركز شربين بمحافظة الدقهلية، وقبل الوصول إلى المكان بعدة كيلومترات تعطل الميكروباص فجأة، وعندما يئس السائق من إصلاح العطل نزل الدكتور ومن معه ليستظلوا بشجرة كافور عملاقة تقوم على جسر مصرف زراعى، وأثناء الانتظار شاهد الدكتور حشوداً من الناموس تتجمع فى المساحات المكشوفة من الماء، ولكنها لا تقترب أبداً من المساحات المغطاة بما نسميه فى الريف «الحامول» أو عدس الماء كما يعرفه العلماء. ولتأكيد الملاحظة اقتطع الدكتور عوداً طويلاً من شجرة صفصاف قريبة، وراح يحرك به عدس الماء من مكانه إلى الأماكن التى كانت مكشوفة، فإذا بالناموس يغادرها فوراً ليحط بعيداً عنها، وظل الرجل لمدة ساعتين يكرر ما يفعله ليحصل على نفس النتيجة، فاستنتج أن عدس الماء يحتوى على مادة طيَّارة أو رائحة لا يطيقها الناموس.
وقبل أن يغادر الدكتور المكان كان أحد الفلاحين قد ساعده فى جمع كمية من عدس الماء، وضعها الدكتور فى كيس وعاد به إلى معامل كلية الزراعة لتحليلها ومعرفة تركيبها، وإذا به أمام ثروة نباتية غذائية، فهو يحتوى على نسبة بروتينات لا تقل عن 45٪ من مكوناته، كما أنه من أسرع النباتات تكاثراً، فالجرام الواحد منه يصبح 20 جراماً خلال 7 أيام فقط، أى إن الطن الواحد منه ينتج 20 طناً خلال 7 أيام، وهذه القدرة المذهلة على التكاثر تجعله حلاً سحرياً لمضاعفة إنتاج أعلاف الدواجن والحيوانات والأسماك، دون الاحتياج إلى مساحات إضافية من الأراضى أو التضحية بزراعات أخرى استراتيجية مثل القمح والذرة والبرسيم والفول، ثم اتضح أيضاً أنه من أغنى المصادر النباتية بالطاقة النظيفة، كما أنه يحتوى على مادة طيارة تقضى فوراً على الذباب والناموس!.
كان الدكتور «م. ع» مزهواً بالكنوز الاقتصادية التى عثر عليها فى عدس الماء الذى ظل لقرون مجرد حشائش تسد المجارى المائية، وتحتاج إلى جهود طائلة لمكافحتها سنوياً، مثلما ظل أيضاً علفاً للبط تحديداً فى عموم الريف المصرى، وخلال استغراقه فى بحوثه جاءتنى فرصة عمل فى الإمارات، وانقطعت صلتى به حتى منتصف عام 2002، عندما عدت إلى عملى فى «الأهرام» ورُحت أبحث عن مصادرى المهمة لأستأنف معهم آخر تطورات أبحاثهم وأحوالهم، وإذا بى أكتشف أن الدكتور «م. ع» قطع كل صلاته بالكلية، ولم يعد هناك إنسان واحد يعرف أين هو أو ماذا فعلت به الأيام!
بعد مجهود شاق عثرت على رقم تليفون بيته، واتصلت به لأجد على الطرف الآخر شخصاً يدعونى إلى ترك كل هذا العبث الذى أعمل به، وألحق به فى «الطريق إلى الله».. وخلال المحادثة التى استمرت أكثر من ساعة حاولت أن أتأكد أكثر من مرة أننى أتحدث مع الدكتور «م. ع».. وفى كل مرة كان الذهول يصعقنى وأنا أستمع لنصائحه: «أنا يا أخى العزيز أحبك فى الله.. وأخشى عليك من الطريق الذى تسلكه.. طريق الدنيا الفانية والضباع المتكالبة على الجيَف.. اترك الصحافة وانسَ البحث العلمى وضلاله وتعال بسرعة لطريق النور والمعرفة الروحية»!
يا دكتور.. هل تذكر بحوث عدس الماء ونحل التلقيح وتجاربك فى إنتاج الحرير الطبيعى؟! ويأتينى رده حاسماً: «لا أريد أن أتذكر شيئاً من هذا المستنقع.. قبل أن تحدثنى كنت محلقاً مع كتاب الله.. وها أنت تريدنى أن أعود إلى وحل العلم الحديث ورجاله الضالين».. يا دكتور.. أريد أن أراك.. فيأتينى جوابه مهللاً سعيداً: «أهلاً بك ومرحباً.. يمكنك رؤيتى فى رحاب مسجد جمعية أنصار السنة المحمدية بعد صلاة العشاء.. هناك نعتكف يومياً لنتزود بما ينفعنا يوم نلقى وجه الله»!
وأعود إلى الكلية بحثاً عن أسباب ما حدث.. وبعد معاناة أعثر على الإجابة: جاءهم عميد ينتمى إلى مجتمع المال والأعمال أكثر مما ينتمى إلى مجتمع العلم والبحث العلمى. وأحاط خاصرته بحزام من الطبالين والإمّعات، قفزوا خلال عام واحد إلى رئاسة كل أقسام الكلية، وأحاط كل منهم نفسه بعدد آخر من الفهلوية والدجالين، وذات ظهيرة عثروا على الدكتور «م. ع» نائماً على مكتبه، ولم يلبثوا أن اكتشفوا أنه أصيب بنزيف فى المخ.. حملوه إلى المستشفى بأقصى سرعة، وظل هناك لأسابيع، وعندما عاد إلى بيته ظل لعدة شهور يقاوم آثار النزيف، وما أن استطاع النهوض والسعى على قدميه مستنداً على عكاز، حتى أخذ طريقه مرة واحدة وإلى الأبد إلى المسجد.. وقرر أن يعتكف مع المعتكفين فى الخلوات والزوايا إلى أن يحين أجله ويسترد الله وديعته!.
لا أعرف أين هو الآن.. ولا أدرى كيف سيكون شعوره إذا كان على قيد الحياة، وقرأ شيئاً مما قرأناه يوم الاثنين 18 أكتوبر الجارى عن افتتاح وفد وزارى لواحة الحرير الطبيعى فى الوادى الجديد.. هل سيعاوده الشغف بأبحاثه العلمية المدهشة.. أم أنه ما زال معتكفاً أو هائماً فى طريق التوبة عن العلم؟!