إننى أشاهد عشرات الأفلام الجديدة، فكأن السينما لا ترى إلا واقعاً مصرياً مأساوياً، بل كأنها فى سباق معه نحو مصير مجهول، حتى إنك لا تدرى أيهما سبق الآخر إلى هذا الضياع وأيهما يقلد الآخر ويحاكيه أم أنهما متجانسان يتبادلان التعاطى والتكامل والشراكة المقيتة فى صنع القبح والشر والرذيلة.
فى المقابل، أعترف بتطور ملحوظ فى حرفية السينما كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، حرفية قد يسجلها الناقد المتعجل تحت عنوان: «الواقعية الأحدث».
لكننى على يقين بأن هؤلاء الذين ينتجون ويكتبون ويمثلون ويخرجون هذه الأفلام لم يعودوا فنانين، بل كأنهم حرفيون ماهرون (صنايعية) لأنهم (فى الحد الأدنى) أغفلوا أو تغافلوا إن لم يكن جهلوا أو تجاهلوا أهم وأقدس وأشرف وظائف الفنون وهى صناعة الجمال وتسجيل اللحظات الإنسانية الفاخرة وتصوير الواقع البشرى وكشف القبح فيه، لا لإغراء الإنسان بمعايشته ومعاشرته ومضاجعته ولكن لهدف وحيد وهو شحذ النفور منه بل والثورة عليه، لذا يكون ذلك الواقع الحقيقى عند ضمائر الكتّاب الحقيقيين فى مقابلة دائمة ومقارعة مستمرة مع الجمال حتى يسقط فى النزال ويسرع الضمير الجمعى بإسقاطه من مناطق الجذب ووضعه فى سلات النفور والبغض.
لو كانت الخلفيات النظرية لهؤلاء السينمائيين تشكل قاعدة ثابتة وموحية فى مخزونهم المعرفى والعقلى لأدركوا أن كتاب (الشعر) لأرسطو -الذى يعتبره الأساتذة المتخصصون القاعدة الأساس للفنون الدرامية- يقرر أن الدراما ينبغى أن تتفوق على الواقع شكلاً ومضموناً، ظاهراً وباطناً، قشرة وجوهراً، أما إذا اكتفت هذه الدراما بنسخ ذلك الواقع، ثم أتم الواقع الدورة المشئومة باستنساخ هذا الصنع السينمائى، فكأن السينما هنا شكلت وجسدت الفارق العميق نفسه بين الصورة الفوتوغرافية وبين اللوحة الفنية.
البطل التراچيدى يا سادة، كما يقرر أرسطو فى كتابه، هو بطل كان دائماً أرحب شعوراً وأعظم نبلاً وأغنى مروءة من الإنسان الواقعى، صحيح أن البطل الكوميدى يكون أدنى لكن هذا فقط ليضحكنا لا ليبهرنا ويدفعنا إلى محاكاته واستنساخه فى دنيانا.
يا أيها السينمائيون الجدد، ولن أقول يا أيها الفنانون، لأنكم لم تعودوا كذلك، إن ما تقدمونه ليس واقعية جديدة ولا الواقعية الأحدث ولا فناً يتم رصده واعتباره وحسابه فى تاريخ الفنون بل إنه صناعة أتقنتم حرفيتها لا لأنكم تعايشون فنياً هذه الشخصيات المكتوبة، ولكن -وبكل أسف- لأنه فى أغلب الظن حياتكم فى واقعها تجانس ذلك القبح وتماثل ذلك الضياع، إنكم لا تؤدون أدواراً مكتوبة بل تعيدون تشخيص أدواركم فى هذه الحياة.
الفن ليس كذلك، ولن يكون الفن شيئاً آخر، شيئاً وإن قارع الجنون، فهو قدس من الأقداس فى تاريخ الحضارات يمنح الإنسان أجنحة الطائر فيطير وبعدها لن يكون أبداً فى هذه الحياة نزيل السجون.
خطر هذه الأفلام داهم يفوق فى خطورته رعب الإرهاب، وما سوف تصنعه فى حياتنا من عذاب يفوق أى عذاب