شاهدته ربما للمرة العاشرة على الأقل، وكلما صادفته على الشاشة أسرنى وأكملت المشاهدة رغماً عنى، أعرف الحدوتة بتفاصيلها نعم، ولكننى أريد فى كل مرة غناء الحدث كأنه أغنية تحج إليها أذنى نشوة بين الحين والحين، والمعنى الذى أفهمه حينئذ أن هذا الفيلم يداخل فى أعماقى أفكاراً متراكمات وأحزاناً متزاحمات وأشجاناً حيناً كامنات وأحياناً صارخات.
اسم الكاتب الموهوب (أحمد عبدالله) أصفق له فى نفسى كثيراً، وأغبطه على عمق التناول وبراعة الطرح وجرأة الولوج إلى هذا العالم المشحون، وفى ذات الوقت أشفق عليه من مرارة أعلم أنها آتية لا ريب ومتحكمة وآسرة للقلب والعقل دون جريرة أو ذنب.
آه من هذه المواهب الحزينة التى توفرت كياناتها على أسرار من أسرار الحياة وغوامض الكائنات.
«الفرح»
هذا إذن هو العنوان الرسمى الكاذب، لا لهذا الفيلم الرائع وحسب، وإنما لمئات المناسبات الملفقة التى اصطنعناها بكلفة وقبح فى حياتنا الحديثة الرديئة.
نعم هكذا هى تسمية المناسبة «الفرح» وإن أضحى كل شىء فيه مأتماً.
هذا هو العنوان العرفى والاجتماعى «الفرح»، ومن المناسب أن نستدعى هنا الآية القرآنية الكريمة التى ربما تحيّر فى فهمها الكثيرون (إن الله لا يحب الفرحين). نعم يا سادة، إن الله لا يحب هؤلاء الفرحين، لأن أفراحهم كاذبة ومظلمة، والضحك والصخب والرذيلة فيها كلها تميت القلب لا تحييه.
ولعل كثيرين لا ينتبهون للفارق الأصيل والكبير بين السعادة والفرح، فالسعادة شعور حقيقى فى القلب، والفرح مظهر من مظاهر الجوارح لا نتأكد أبداً من حقيقته فى المضامين.
لكن العجيب أيضاً أنه فى ثقافتنا المصرية وتراثنا الاجتماعى والفنى المسافة بين الفرح والمأتم قصيرة جداً.
ومعالم المناسبتين متشابهة جداً، بل ومتداخلة جداً.
وكلاهما فى الأعراف الشعبية له صوان ويتم على مرأى ومسمع فى عرض الشارع.
صحيح أن لمبات الكهرباء فى أحدهما ملوّنة وفى الآخر بيضاء باهتة، لكنه ليس بالفارق اللافت.
بل من الغريب أنه حتى فى الموسيقى المصرية الكلاسيكية تتقارب لحد بعيد زفة العروس وإيقاع الجنازة، حتى إن موسيقاراً عبقرياً كبليغ حمدى مزج بينهما بإبداع نادر فى فرح فؤادة بفيلم «شىء من الخوف»، فقد كان هو الآخر فرحاً أقرب ما يكون لأحرّ جنازة.
وكذلك فرح المبدع الكاتب أحمد عبدالله بفيلمه المعنون بـ«الفرح» فى ظاهره مناسبة يصطنع فيها البؤساء مراسيم فرح، بينما هم يدبّرون مأتمهم دون أن يدركوا.
ليست القضية أن السيدة «أم زينهم» (الفنانة كريمة مختار) توفيت أثناء الفرح، بل لعل وفاتها كانت الاستثناء الطيب الوحيد فى مجمل المعاصى التى غمرت ذلك اليوم الحزين المسمى «تجاوزاً»، أو بالأحرى «تزييفاً»، بالفرح.
ومن يراجع تفاصيل حياتنا كمصريين يعلم جيداً أن كثيراً من مناسباتنا المصطنعة المزيفة عنوانها أو ظاهرها سعيد وباطنها ومؤداها العذاب، وهذا شأن الأفراد والجماعات والشعوب والأمم حينما تخالف قناعاتها وتغالط معتقداتها وتتسع المسافة بين الصدق الذى تدرك والكذب والنفاق الذى تمارس وتعيش.
«الفرح» كان مناسبة اجتمع لها كل تراث الشر فى البيئات الجاهلة، وتحالف فيها شياطين الإنس من كل حدب وصوب ليُشهروا قدراتهم البذيئة ويحاولوا جاهدين أن يحيلوها إلى مزاج اجتماعى وأعراف شعبية، بل ويكرّسوها قوانين إنسانية وفنية فى دنيا الناس والمجتمعات، ويأتى مُنظِّرون خبثاء من نفس البيئات المنحطة، فقط اكتسبوا أقلاماً أو برامج إذاعية أو تليفزيونية أو حتى يوتيوبية، لينظِّروا لأصالة هذه المظاهر وقرابتها بالعادات والتقاليد والظروف الاجتماعية والتعليمية والاقتصادية لفئات الأغلبية الساحقة من المجتمع حتى يبرروا وجودها ويسوّقوا لمزاجها، وتصير فى البداية مبررة، ثم مستساغة، ثم معتادة، ثم مرغوبة، ثم الوحيدة الموجودة فعلياً على الساحة، وهنا يتم إعلان انهيار الأمة، ويبدأ التأريخ لانتكاسة عصر وتدنى مرحلة من مراحل الزمان.
كل شىء ملتبس..
فالفرح المزعوم فى حقيقته جمعية تعاونية مزيفة، والعروس والعريس يؤديان دوراً ملفقاً، فهما مستأجران لأداء المهمة رغبة فى الحصول على مبلغ من المال، وهما متزوجان شرعاً ومتسافحان عرفاً، ويريدان المال لإجراء عملية جراحية تعيد الزوجة الشرعية أمام الله بنتاً أمام المجتمع المتفاضح غير المحتشم.
وطبيب العصر عيادته تحت السلم وهو ليس متحرشاً وحسب بالقوانين الطبية والإنسانية، ولكنه متحرش ومغتصب لزبائنه من الضائعات.
وبائعة البيرة فتاة كادحة يتيمة الأب وتجرى رزقاً على أمها وأخواتها الصغيرات لكن سبيلها الملتبس لتحقيق هذا الهدف النبيل هو بيع البيرة.
والحرفيون الأغنياء الجدد (الأسطوات) مسلحون بالمال مجردون من كل أدوات الحضارة والتمدين يمارسون أحط الرذائل ولديهم أردأ الأمزجة والرغبات، لكن المال مكّنهم وشكّل لهم سطوة وإرادة على المجتمع المحيط.
ومكان الفرح فى حقيقته خرابة تصلح مأوى للحشرات والحيوانات الضالة والعفاريت، لكن الإنسان شاحن هذه الكائنات الأدنأ فى أوطانهم كأنه قد ضاقت به الدنيا الواسعة وتم ابتسارها فقط فى هذه الخرابات الضيقة.
وأحد الأسطوات الذين لم يتشيأوا بعد (الأسطى حسن الحشاد) يرى كل شىء فى الحياة مثله قبحاً وحقارة، فلا يرحم هذه الفتاة الغلبانة التى تبيع البيرة بل يراها سلعة ساعة وحسب، تلك هى قيمتها فى قناعته، يريد أن يعتدى عليها، فتطعنه بالمطواة لترديه قتيلاً ولتسدل الستار أيضاً على مسرح حياتها الصغيرة هى وأمها وأخواتها الصغيرات.
والسيد المونولوجيست الشهير (صلاح وردة) يريد إحياء نفسه من الموات الفنى ويتمنى أن يعود أدراجه، يقدم فنه حتى لو قدمه لهؤلاء الحشاشين المغيبين، وتكون النتيجة أن يعلن وفاته الفنية الرسمية من مسرحهم العبثى فى الخرابة.
نعم هذه هى الكلمة الصادقة الوحيدة فى تعريف الأشياء (الخرابة).
فالساحة والمسرح لهذه الأحداث جميعاً (خرابة).
والخرابة من الخراب وإلى الخراب.
وهى التى معها يستحيل الفرح المزعوم إلى مأتم محتوم.
وتنتهى القصة.. يغلف نهايتها بصيص أمل يأتى من صوت واصف شارح مشرف حزين، صوت يأتى من السماء يشرح مصير هؤلاء الجهلاء ومَن شاطرهم قواعد الرحلة وقوانين اللعبة.
لكن الصوت يجعلنا جميعاً نصوّب أنظارنا إلى أعلى، إلى السماء، لعل الله يمنحنا الدواء والشفاء لهذا الوباء الداء.