تعرض الاقتصاد المصرى الرسمى فى السنوات الماضية للعديد من المنحدرات والمنعطفات، كانت كفيلة بانهيار البلد لو كان هذا الاقتصاد معبراً عن الاقتصاد كله. لكن الحقيقة أن هناك اقتصاداً موازياً غير رسمى يعمل بقوة، وروابط اجتماعية وعادات أهلية تكافلية تقدم سنداً للفئات الهشة والفقيرة.
فى هذه الروابط الأخيرة تكمن إحدى مزايا المجتمع المدنى. ومن المطالب العاجلة تطوير هذه الميزة حتى تتحول من المساعدة المؤقتة والطارئة للناس، إلى خطة عمل توجه أسلوب عمل الكيانات الاجتماعية نحو «المشاركة المنظمة» مع الحكومة فى تحويل الجماعات الهشة من «عالة» على المجتمع إلى قوى منتجة حتى لا تتعرض لمزيد من التهميش، وطبعاً لن يكون هذا بإعطاء «كشك» أو «جاموسة»! ولكن ببناء مصانع ومشاغل ومزارع تعمل فيها هذه الفئات؛ فهناك فرق بين «الاقتصاد الاستهلاكى» و«الاقتصاد الإنتاجى» الذى يسهم فى عملية التنمية. وهنا أريد أن أسأل: كم مدرسة ومستشفى ومركز تدريب قامت ببنائها تلك الجمعيات التى تجمع الأموال ليل نهار؟ ولماذا تدفع تلك المبالغ الطائلة على إعلانات تليفزيونية فى كل الشاشات وفى حالة من الحصار الدائم للمشاهدين؟ أليس من الأولى أن تذهب أموال هذه الإعلانات إلى بناء صروح تعليمية وطبية وصناعية تستوعب مزيداً من الأيدى المعطلة عن العمل؟! فالأيدى الخشنة أيدٍ يحبها الله ورسوله.
إن المجتمع المدنى يفتقر إلى الرؤية الاجتماعية التنموية، وهو لا يزال يتحرك من خلال رؤية هزيلة وبدائية، حيث تحول مع بعض العاملين به إلى عمل احترافى للارتزاق، لدرجة أن مرتبات العاملين بمؤسسة خيرية شهيرة يعادل مرتبات العاملين بالبنوك وشركات الاستثمار! وهم لا يريدون أن يبذلوا أى جهد بنائى، وبالتالى فالعمل الأسهل هو منح الصدقات المباشرة للمحتاجين إليها والعاملين عليها! ولا يعرفون الفرق بين الصدقة المنقطعة والصدقة الجارية، فتلك الأخيرة هى المحكومة برؤية تنموية ميزها النبى (صلى الله عليه وسلم) بشكل واضح.
وفى كل الأحوال ليس دور المجتمع المدنى هو جمع الصدقات وتوزيعها، بل له أدوار متعددة يجب أن يتنبه إليها؛ إذ عليه أن يحمى الأفراد من القوة الطاغية لبعض الجهات الرأسمالية الاحتكارية التى تريد المجتمع مجرد فضاء للاستهلاك وليس للإنتاج. وليس هذا دور المجتمع المدنى وحده، بل هو دور الحكومة أيضاً، فعليها أن تحمى الأفراد من «صراعات المصالح» التى لا يخلو منها المجتمع المدنى أبداً. وعلى الحكومة أن تحمى المجتمع المدنى من فساد بعض أعضائه من أهل الارتزاق والمظهرة الإعلامية.
على مستوى آخر، يجب أن تتنبه الحكومة إلى أموال الجمعيات، وتعمل على توجيهها نحو المشروعات التنموية، وتضع سياسات عملية مشتركة بينها وبين المجتمع المدنى لمواجهة الفقر، مثل تقديم دراسات الجدوى والقروض الصغيرة لتدعيم المشروعات الصغيرة وبالغة الصغر، ولتشجيع المبادرات الاقتصادية من الأفراد والشركات الصغيرة ومنظمات المجتمع المدنى، وإنشاء مراكز أهلية للتدريب على المهارات الوظيفية والمهنية والإنتاجية التى يحتاجها المجتمع. ولا بد من تدعيم الحكومة للأنشطة التى تضطلع بها الجماعات المحلية، خاصة فى المناطق الفقيرة والمهمشة، تدعيماً مالياً؛ فموارد الحكومة ضرورية فى هذا الجانب. ولا تقل أهمية عن ذلك ضرورة تركيزها على نشر ثقافة التنمية والإنتاج، وتفعيل مشاركة المواطنين، وتهيئة المناخ العام لجعل كل مواطن يشعر أن أى عمل إيجابى -ولو كان صغيراً- سوف يساهم فى عملية التنمية والتقدم، وغرس مفاهيم عمل الخير الإيجابى، أعنى الذى ينعكس على عملية التنمية والبناء والتعمير والإنتاج.
وللحكومة مع المجتمع المدنى مهمة جوهرية فى ضبط نظام الاستهلاك والاحتياجات وحماية السوق من التدخلات المفتعلة والاحتكارية والإغراقية. فإذا كان لا مفر من الاستمرار فى السياسات الرأسمالية وتبنى نظام السوق، فلتكن الرأسمالية الوطنية هى الحاكمة، وليكن السوق خاضعة لضوابط تحمى الفقراء؛ فلا ينبغى أن تُترك السوق بلا قواعد.
فليست الحرية الاقتصادية مرادفة للفوضى، ولا بد من قدر من الحماية التنظيمية من خلال القانون والمؤسسات القائمة على ضمان تنفيذه؛ حتى لا تتسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء. كما أن جمعيات حماية المستهلك عليها دور كبير فى الضغط من أجل الحفاظ على سقف الأسعار وضمان الجودة.
إن العبء كبير على المجتمع المدنى، وينبغى أن يقوم بمسئولياته، ولا يصبح هو بدوره عالة على الحكومة. كما أن العبء كبير على الحكومة، لكن دورها والعبء الواقع عليها لا يبرران لها الهيمنة على المجتمع المدنى، أو السيطرة الشمولية عليه؛ لأن الدولة يجب أن يقف تدخلها عند حدود التنظيم القانونى والمراقبة الجادة ورد المخطئ إلى جادة الصواب أو عقابه أو إبعاده، ولا تتعدى هذه الوظيفة إلى ابتلاع أدوار سائر الأطراف؛ فالدولة كما يقول دوركايم: «إذا كان لديها الحرص على أن يكون لها وجود فى كل مكان، فسوف لا توجد فى أى مكان»؛ فهى -أياً كانت قوتها- لا يمكن أن تلعب دورها ودور غيرها إلا بأداء ضعيف باهت، والدولة من هذا النوع الشمولى سيعاديها الناس وتفقد تأثيرها فيهم، وستصبح دولة مركزية بيروقراطية بطيئة تعطل المصالح المشروعة وتؤجج مشاعر الكراهية للسلطة. وبالمثل يجب ألا يعتدى المجتمع المدنى على دور الدولة؛ لأن الثمن هو الاضطراب الوظيفى الذى يئد التنمية، وينشر الفوضى غير الخلاقة.