أولاً، وقبل كل شىء، أدعوكم لأن تصدّقونى ولأن تعتقدوا معى بيقين أن ذلك البيت الشعرى حقيقة تاريخية وليس ترفاً إنشائياً أو غواية شعرية.
أعلم أن كثيرين منكم، بل ربما كلكم، يعرفونه، لكن كثيرين منكم، بل ربما معظمكم، لا يصدّقونه:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
أقول هذا بمناسبة الحديث المثار عن موضوع الفيديو المسرّب لنجوم الكرة، ذلك الموضوع وخلفياته وتبعاته التى أكدت أن هؤلاء النجوم وزملاء لهم مقتحمون لعالم الإعلام دون أدنى دراية بقوانينه وأعرافه وحرفيته، حتى إنهم يعتبرون جوهر قضية الفيديو والتسريب هو السطو على «الخصوصية»، وفى هذه الحال كأنهم يساوون تماماً بين «البيت والشارع والكافيه» وبين «الاستوديو والبلاتوه»، رغم أننا اجتماعياً نفرّق بوضوح شديد فى البيت نفسه بين الصالون وغرفة النوم والحمام، وهو تفريق تربوى نجده ضرورة حتمية لتربية أولادنا ولتعليم الأجيال المقبلة أصول الحياة الطبيعية الصالحة، لكن فى المقابل دعونا نؤكد أن هذا المفهوم المغلوط لديهم بالمساواة بين الاستوديو والشارع والكافيه دفعهم إلى اعتقاده حالة اللامبالاة التى نعيشها فى الوسط الإعلامى وسكوت المسئولين المعنيين على العديد من الممارسات الإعلامية المخلة التى سفّهت من قيمة الاستوديو ومن احترازاته القيمية العديدة التى ينبغى أن يستشعرها العاملون فيه، حتى إن هؤلاء اللاعبين الكبار فى النهاية لم يعتبروه مكان عمل، بل لم يجعلوه حتى فى مستوى تقدير ملعب الكرة، فهم يعلمون أن القانون الكروى يعاقب اللاعب إذا تلفّظ بلفظ خارج أثناء المباراة، وقد يتسبب ذلك فى طرده المباشر، ناهيك عن إيقافه عدداً من المباريات وتغريمه مبالغ مالية كبيرة.
كان لا بد إذاً لمن فتح لهم أبواب الاستوديوهات على مصاريعها أن يُفهمهم قبلها أنه مكان عمل يعاقب فيه القانون كل من يتجاوز لفظياً أو يتسبب فى إيذاء أذن ومشاعر أى من العاملين فيه بالاستماع رغماً عنهم إلى أحاديث أو ألفاظ خارجة، وأنهم طالما ظلوا جالسين للهواء أو التسجيل وطالما معهم ميكروفوناتهم فهم فى حالة «الهواء»، وينبغى أن يكونوا فى غاية الالتزام، أما الخصوصية المزعومة فهى محض ادعاء مضحك، فأى خصوصية تلك وأنتم وسط استوديو به مصورون وعاملون ويتابعكم كنترول به مخرج ومساعدون ومسجلون ومونتيرون ومتخصصون فى الفيديو فونت وفنيون للإضاءة... إلخ؟! بربكم أى خصوصية لأصدقاء وسط كل هذا الجمع؟! وأنا هنا أنصح أكثرهم تلفظاً بالعبارات الخارجة فى هذا التسجيل، والذى بدلاً من أن يطأطئ الرأس خجلاً ويبادر بالاعتذار للجميع فإنه خرج ليصرح بالقول إنه سوف يقاضى المتسبب فى التسريب، أقول إنه ينبغى أن يستعد هو أولاً لاستقبال قضايا قد تُرفع عليه من كل هؤلاء العاملين أو بعضهم أو واحد فقط منهم يتهمه فيها بالتلفظ بألفاظ خارجة أثناء العمل وفى موقع ذلك العمل، وأظن أن هذه القضية مصيرها أوضح من الأخرى.
ثم إن ألف باء العمل التليفزيونى، وبالذات على الهواء، أن يظل الجميع فى حالة انضباط تام واحتراز لأنه قد يحدث أى خطأ عفوى وليس مدبراً من المونتير أو مسئول الصوت مثلاً فيخرج الصوت أو يتم نقل الصورة فجأة، وحينها لا بد أن يحاسب الجميع لا أن يحاسب الفنى فقط، بل يحاسب الذى صدر منه الخطأ (لماذا لم يكن محترماً ومنتبهاً؟).
يا سادة، هؤلاء تم التسجيل لهم فى بلاتوه وليس فى الشارع أو على الهاتف الخاص (هذا مهم جداً).
وبالتالى، وتماهياً مع قوانين العمل، يجب تماماً منعهم من الظهور على الشاشة حتى يتم التحقيق معهم واتباع اللازم قانوناً.
الشىء المؤسف أكثر هو كمّ التعليقات على هذا الفيديو المسرّب من ممارسين للعمل الإعلامى -وبعضهم رياضيون سابقون أيضاً وإعلاميون حالياً بالقوة- هذه التعليقات انطوت على فراغ معرفى كبير بأصول الإعلام وقوانينه، بل كانت كافية للتأكيد على ما آل إليه تصور البعض بأن السفالة والانحطاط سلوك اجتماعى بديهى ومتفق عليه، بل كما قال أحدهم بتبجح شديد وتعالُم مسفّ، وللأسف هو إعلامى من خريجى كلية الإعلام، قال: إن هذا الانحطاط «تراث مصرى فى العلاقات الاجتماعية».
هذا، يا سادة، ما يطلق عليه ضمن الأمراض الاجتماعية الخطيرة «العته الأخلاقى»، وهو مرض يصيب بعض الأفراد أولاً، وإذا استشرى بين الناس صار مرضاً اجتماعياً يمهد لانهيار الأمم. أقول هذا وقد هالنى دفاع البعض، وبالذات من السيدات، عن الحوار المتدنى لهؤلاء واعتباره طبيعة الأشياء والمشترك الذى يجمعنا جميعاً فى مناسبات مشابهة، وأن من يعلن اعتراضه وامتعاضه من هذا كله هو مدّعٍ للشرف والأخلاق، ومتكلف سخيف للقيم، ومزايد متنطع للفضيلة، وكأننا جميعاً تم ضبطنا متلبسين بقول ألفاظ مشابهة فى ظروف مساوية. والواضح أن ما دأب عليه العديد من الألسنة فترات طويلة من الزمن أصبح لا بد له من شرعية عقلية ومزاج لا يستقبحه ولو كان قبيحاً، وهذه تماماً كمشاعر السكر كما يتحدث عنها الخبراء من السكارى بأنه حينها يجتاحهم شعور لا يقاوم بتحطيم كل الحواجز الأخلاقية والعقلية كذلك، نوع من الجنون يتلبّس معانى الحرية إغراءً ثم إيقاعاً بالسكّير، لكنه بالطبع غير كافٍ لإيقاع أو حتى إغراء حاضر العقل ثابت الخلق.
منذ أيام كنت محظوظاً بالدعوة لحضور احتفال المجلس القومى للمرأة بعيد الأم فى حضور سيادة الرئيس، وقد أصبحت بعد هذا الحفل كثير الحديث مع الأصدقاء عن ولعى الشديد بأدب الرئيس الجمّ وحُسن خلقه الذى يصعب أن يخطئه أى ملاحظ عادل، كما أننى أجزم بأنه يستحيل أن يتكلف إنسان هذه الدرجة من حسن الخلق دون أدنى افتعال طوال هذه الفترة، بل إنه يمارس تفاصيل ذلك الخُلق بأريحية لا تتوافر إلا لصاحب الانفعال الأصيل الصادق، ناهيك عن العفّة المتأصّلة فى ألفاظه وعباراته التى يدرك المراقب أن اللسان اعتادها فى السر والعلن، فى الخصوصية والعمومية. هذا كله جعلنى آملاً بل متفائلاً بأن يحاكيه المجتمع (بإعلامه أولاً) فيعيد للمجتمع دورة قيمه مرة أخرى كما كانت منذ عقود مضت، ونصبح مجتمعاً موحداً له خطوط أخلاقية واضحة وفاصلة تعود به منارة للحضارة وإشعاعاً على كل الإقليم من حوله بل على العالم بأسره.
ومرة أخرى أذكركم:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا