عمال هدم المبنى: "الشغلانة منظورة.. والمكان ده كان فاتح بيوت كتيرة"
![عمال هدم المبنى:](https://watanimg.elwatannews.com/old_news_images/large/356724_Large_20150602091257_15.jpg)
لا تزال أعمال الهدم عند الحد الشرقى للمتحف المصرى القديم قائمة، 150 عاملاً يتابعون الحفّار الذى ينحت فى مبنى الحزب الوطنى المحترق منذ «جمعة الغضب» فى 2011، أو يدقون بمطارقهم الثقيلة لتفتيت كتل الخرسانة، أو يغالبون أسياخ الحديد المتشابكة بسواعدهم لفردها وتحويلها إلى خردة قابلة للاستخدام من جديد. ولا تزال بوابات الحزب ومبنى المجالس القومية المتخصصة مغلقة تحت حراسة من القوات المسلحة، لتأمين أعمال الهدم التى اعتمدتها محافظة القاهرة ورسا عطاؤها على إحدى شركات المقاولات.
عشرات العمال المقسمين على ورديتى عمل يجوبون منطقة الهدم بسترات برتقالية وخوذات، بينما يشرف مقاول الهدم على سريان العمل بجلبابه السماوى ممتعضاً من وفود الصحفيين والمصورين الذين يترددون على الموقع، عملٌ جلب لـ«رجب حافظ»، المقاول، الشهرة، لكنها «غير مرغوب فيها» حسب ما يصف المقاول: «كل يوم تصوير وصحافة، وكل عامل من العمال بيقف علشان يتصور ويسيب شغله، وفى الآخر الواحد فيهم بياخد 100 جنيه فى كل يوم غير الأكل والشرب، بيضيعوا وقت الشغل علشان التصوير، الشغلانة منظورة يعنى من الآخر» يقول «رجب».
لا يميز «حافظ»، المقاول، مشروع هدم الحزب الوطنى المنحل عن غيره من المشروعات التى فازت بها شركته فى السابق، فدأب على قول إن «المشروع ده زى أى مشروع، مش فى بالى إنى بهد الحزب الوطنى، ومش واخدها من ناحية إن المشروع ده صح أو غلط».
عمليات الحفر قد تستغرق أكثر من 3 أشهر، كما يقدر المقاول الذى يشير إلى أن العمل مستمر على مدار اليوم، وبالرغم من ذلك فالعمل «هيبقى أقل فى رمضان، بحكم الصيام والحر والعمال هيشتغلوا عدد ساعات أقل فى الجو الولعة ده».
أعرب أحد عمال المشروع، الذى لم يفصح عن اسمه، عن تأييده لمشروع الهدم، والسبب ما سيعود من وراء ذلك بالنفع على «المتحف المصرى اللى هيشم نفسه لما المساحة دى كلها تتهد وتبقى منطقة خضرا والمتحف يبقى منه للنيل على طول، طبعاً دى حاجة هتفيد المتحف وهتخلى الإقبال عليه أحسن وهتجمل المنطقة بجنينة خضرا».
مع الثامنة صباحاً يشرع العمال إلى مطارقهم ومقود الحفار المزود بسلاح يدق فى أساسات المبنى الذى لطالما اعتبره المشاركون فى ثورة يناير «وكراً للفساد» فى عهد الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، لكن الكثيرين من هؤلاء العمال المشاركين فى أعمال الهدم لا يتفقون مع هذا الوصف. أحمد محمود، أحد عمال الشركة القائمة على هدم الحزب الوطنى، يقول: «المبنى ده كان فاتح بيوت ناس، تفتكر فيه حد مابيحبوش؟»، لكن على الرغم من ذلك يشير الشاب الوافد من قنا للعمل فى القاهرة إلى أنه استفاد من وراء مشروع إزالة المبنى مما جعله «يحب الحزب أكثر»، كما يقول ضاحكاً.
يتبادل العمال، على اختلاف أعمارهم السجائر، فى فسحات بين ساعات العمل، فيما يتناولون الغداء فى ساعة فى منتصف الظهر، فيجففون جباههم من العرق السائل عليها جرّاء العمل المتواصل منذ الثامنة صباحاً وحتى الثانية عشرة ظهراً، ليعاودوا العمال ثانية حتى الرابعة عصراً، تحت ملاحظة قوات الجيش التى يتخد أحد تشكيلاتها موقعاً له بجوار المبنى الجارى هدمه.
أكواب من الشاى فى علبة كرتونية يحضرها أحد العمال من «كانتين» يديره مجندو الجيش، ويوزعها العامل على أصدقائه الذين يحتسونه فى قسط راحتهم.. «مش بنخرج من مقر الحفر إلا نادراً، وطول اليوم بيكون شغل إلا فى أوقات الراحة»، يقول محمود.
يحضر «محمود» إلى مقر العمل فى الثامنة إلا الربع من كل يوم، مقبلاً من مسكنه المؤقت فى المرج بصحبة أحد أبناء عمه أحمد ربيع، الذى انضم لشركة المقاولات منذ وقت بغرض التحضير لزواجه المرتقب بعد حوالى 8 أشهر: «هدخل كمان 8 شهور، والشغلانة دى جايلى منها قرشين للجواز، علشان أبويا قال لى أجوز نفسى وأعتمد على روحى، وأجرتى 100 جنيه فى اليوم».[FirstQuote]
يعتقد «محمود» أن مبنى الحزب الوطنى ومبنى المجالس القومية المتخصصة المحترقين كان بمقدورهما أن يصمدا لسنين أطول لولا حادث حرقهما فى اليوم المعروف إعلامياً بـ«جمعة الغضب» فى يناير 2011، حيث يردف الشاب: «المبنى لو ماكانش اتحرق كان ممكن يستخدموه فى أى حاجة تانية، ومع إنه بقى أضعف من الأول بسبب الحريق، لكن لسه جامد، لدرجة إننا علشان نخلص إزالة هناخد أكتر من 3 شهور شغل ليل وصبح»، ويلوم الشاب القنائى من أضرموا النيران فى المبنى قائلاً: «ربنا يسامح اللى حرقوه، لأنه كان فاتح بيوت ناس بتاكل عيش من وراه، ومحدش يرضى بالخسارة، بس نرجع ونقول يمكن الناس لما حرقوه ارتاحوا».
مجموعة من الأطفال المشاركين فى أعمال الهدم يتجولون فى موقع العمل ناقلين أكواماً من حديد التسليح الذى خلصته مطارق زملائهم فى العمل من الكتل الخرسانة التى تم نحتها وإسقاطها من المبنى، الأطفال الأصغر سناً من أقارب صاحب الشركة، كما يقول أحد العمال، ويشرف عليهم كما يشرف على بقية العاملين فى الموقع فرحات محمود، رئيس العمال فى الشركة.
بجلباب كمّونى قاتم، يشير «فرحات» بكلتا يديه، موبخاً المتقاعسين عن العمل، يقول بصوت عالٍ، يغالب به أصوات الحفار والمطارق، ويحاول أن يغلبه: «شغلنا عبارة عن إننا بنكسر الأساسات والحوائط فى المبنى جزء جزء، وبننقل المخلفات، نفتتها ونخرج الهدد والطوب والخرسانة لوحدها علشان تتنقل على منطقة شق التعبان بعربيات لورى، والحديد بننقضه علشان نقسمه على حسب الطول ويتباع خردة».
بالقرب من رئيس العمال الذى ينوب عن صاحب الشركة عندما يستظل الأخير بسور الحزب الوطنى لوضع بعض الملاحظات فى دفتره الخاص، يقف حسين عبيد، عامل فى منتصف الأربعينات من عمره، يلتقط أسياخ الحديد التى ينقلها إليه زملاؤه ويقوم بفردها بواسطة قضيب حديدى صلب.
بخلاف الكثير من أصدقائه العاملين لدى شركة المقاولات ذاتها، لا يبيت «حسين» فى موقع العمل، وإنما يغادر يومياً إلى بيته فى منطقة الزاوية الحمراء بعد انتهاء ورديته فى الرابعة عصر كل يوم لكى يعود إلى الموقع فى الثامنة إلا الربع (قبل ابتداء العمل رسمياً بربع ساعة) ليستبدل ثيابه ويتناول فطوراً سريعاً ليعينه على العمل حتى الظهر.
ولكل من العمال القائمين على هدم الحزب الوطنى مهمة معلومة، بعضها قد يكون محفوفاً بالخطر، وبعضها أقل خطورة كما يقول «عبيد» الذى يتابع: «مفيش بالنسبة لى أنا خطورة فى الشغل، لأنى بعيد عن الحفار وشغله، والناس اللى بيشتغلوا حوالين الحفار هما اللى عليهم الخطر، لأن ممكن من غير ما ياخدوا بالهم دبشة تقع عليهم تجيب أجل الواحد فيهم، بس الحمد لله ماحصلتش أى إصابات لحد دلوقتى، ونتمنى ربنا يتمها على خير ومحدش مننا يتصاب».
لم يخبر «حسين» أولاده بعد بأنه يعمل حالياً فى مشروع هدم الحزب الوطنى.. «معايا 3 أولاد، واحد فى ثانوية عامة واتنين فى إعدادى.