النائب الدكتور يوسف عامر يكتب: وما ملكت أيمانكم
![النائب الدكتور يوسف عامر](https://watanimg.elwatannews.com/image_archive/840x473/2296100671718982695.jpg)
النائب الدكتور يوسف عامر
قالَ اللهُ سبحانه وتعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً» [النساء: 36].
بدأت الآيةُ الكريمةُ بالأمرِ بعبادَةِ اللهِ سبحانه وتعالى والنهى عن الشركِ به، ثم أمرتْ بالإحسانِ إلى الوالدَيْنِ، والأقارب، واليتامَى والمساكينِ، والجارِ القريب والغريبِ، وابنِ السبيلِ [المسافرُ الذى انقطعَ عن وطنِهِ وليسَ معه مالٌ كافٍ لبلوغِه ما يريد]، ثم عطفَ عليهم سبحانه: «وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، والمراد بهم العبيد.
وقد يتساءلُ البعضُ لماذا وضعَ الإسلامُ أحكاماً خاصةً بالعبيدِ المملوكين؟! أليس الأجدَى والأنفعُ أن يأمرَ مباشرة بعتقِهِم؟!
والحقُّ أنَّ الإسلامَ جاءَ بتحريرِ العبيدِ فعلاً، وهذا لا يتعارضُ معَ وضعِهِ بعضَ الأحكامِ لهم، فليسَ المرادُ مِن هذه الأحكامِ وجودُ طبقةٍ من العبيدِ فى المجتمعِ، ولكن الأصلَ فى الإسلامِ أنه دينٌ واقعىٌّ، فحينما أرادَ أن يحرمَ الخمرَ نزلَ التحريمُ على مراحلَ، وليسَ معنى هذا التدريجِ فى حكمِ التحريمِ أنَّ الإسلامَ يُقرُّ الخمرَ، ولكن معناه أنه يعاملُ النفوسَ البشريةَ بحسَبِ ما تَقبلُهُ، ويُهيّئُها للارتقاءِ مِن قاعِ العصيانِ إلى أُفقِ الطاعةِ.
وقد جاءَ الإسلامُ والعالمُ قدِ انتهجَ نهجَ الاستعبادِ والاسترقاقِ، فلو جاءَ الأمرُ مباشراً بالعتقِ لم تتقبلْ هذا نفوسُ البشرِ، فجاء الأمرُ بإحسانِ المعاملةِ، واستحبابِ العتقِ، وإيجابِهِ فى بعضِ الحالاتِ، مراعياً فى ذلك طبائعَ البشر التى لا يَسهُلُ عليها الانقيادُ من وضعٍ مجتمعىٍّ عامٍّ إلى وضعٍ مجتمعىٍّ جديدٍ.
ثمَّ إنَّ الإسلامَ فى هذا راعَى أيضاً جانبَ أولئكَ العبيدِ أيضاً، فمنهم مَن لا يستطيعُ أنْ يعملَ ويتكسّبَ لكبرِ سنّه أو لعجزهِ أو لغيرِ ذلك، ومثل هذا لو أُعتقَ لم يجدْ سبيلاً سوى أنْ يسألَ الناسَ، فيعطيَهُ مَن يعطِيهِ ويحرمَهُ مَن يحرمُهُ، ومنهم من قد يموتُ جوعاً، وأولئكَ يُكرهُ أنْ يُعتقَهم سادتُهم فيتخلَوا بذلك عن إطعامِهِم والنفقةِ عليهم.
وهذا يبينُ أنَّ الإسلامَ يتعاملُ مع الواقعِ، ويأخذَ بأيدِى أبناءِ ذلك الواقعِ إلى سبيلِ الرقىِّ شيئاً فشيئاً حتى يأتىَ اليومُ الذى يربأُ [يرتفعُ] فيه الناسُ عن الحالةِ الدنية، وتصبحُ بالنسبةِ لهم أمراً مستنكراً.
وحينئذٍ يَبقَى تشريعُ الإسلام مُرشداً -ليسَ للمسلمين وحدَهُم بل للبشريةِ كلِّها- كيفَ يُراعَى واقعُ الناسِ، وكيفَ تُعاملُ النفوسُ البشريةُ، وكيف يُتَرقَّى بها درجة درجة فى سُلَّمِ الرقىِّ.
والطعنُ فى هذه الأحكامِ أو المناداةُ بإلغائِها إهدارٌ لهذه المعانى الدينيةِ والعِلميةِ والإنسانيةِ والمنهجيةِ.
وفى هذه الآيةِ الكريمة جاءَ الأمرُ بالإحسانِ إلى تلكَ الطائفةِ من الناسِ، وهذا الإحسانُ يظهرُ فى مثل أمرِ سيدِنا رسولِ اللهِ، صلى الله عليه وسلم: «إخوانُكُم خَوَلُكُم [خدَمُكُم]، جعَلَهُمُ اللهُ تحتَ أيدِيكُم، فمَن كانَ أخُوهُ تحتَ يدهِ، فَلْيُطعمْهُ مِمَّا يأكلُ، وَليلبسْهُ مِمَّا يَلبسُ، ولا تُكلّفُوهم ما يَغلبهم، فإنْ كَلّفتموهُم فَأعينُوهُم» [متفق عليه]، وقد كان آخِرُ كلامِه صلى الله عليه وسلم: «الصلاةَ الصلاةَ، اتّقوا اللهَ فى ما مَلَكَتْ أيمانُكم» [أبوداود]، وقد بين السادة العلماء أنَّه قرن الوصية بهم مع الصلاة؛ ليعلم أن القيام بما يحتاجونه من نفقة وكسوة واجب على مَن ملكهم وجوبَ الصلاة التى لا سَعَةَ فى تركها.
* رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بـ«الشيوخ»
ورئيس قناة «الناس»