أصحاب مدابغ "مجرى العيون" يستغيثون: أنقذوا "صناعة الجلود"
مساحة هائلة تتوه فيها العيون. على مرمى البصر سور مجرى العيون بمنطقة مصر القديمة، من خلفه ورشهم ومنازلهم، حياتهم التى تنفصل عن العالم من حولهم، لا يسمعون فيها صوتاً سوى تروس آلات الورش الدائرة، ولا يشتمون رائحة غير الجلود المصبوغة فى طور التحضير لإمداد السوق المحلية بها أو تصديرها للخارج، أناسها راضون بحياتهم ولقمة العيش التى تأتيهم من وراء صنعة تتطلب صبراً وجهداً بدنياً مضاعفاً، لكن الحكومة لم تكفها تعاستهم لتضيف إليهم تعاسة أكبر بقرار نقلهم إلى إحدى المدن الجديدة.
مدينة بدر وتحديداً منطقة «الروبيكى» هى وجهتهم الجديدة وفقاً لقرار حكومى صدر قبل عامين ولم ينفذ، مفاده نقل 7 مدابغ كمرحلة أولى تمهيداً لنقل الجميع فى أقرب فرصة، قرار لم يعترض عليه أيضاً أصحاب المدابغ رغم قسوته، لكن أموراً أخرى لم تعجبهم. «يا نعيش عيشة فل يا نموت إحنا الكل»، هكذا عقب «خالد أبواليسر» صاحب محل كيماويات فى المنطقة، فقرار الرئيس السابق عدلى منصور بإعادة توطين أصحاب المدابغ بمصر القديمة أصابه بالصدمة، «رئيس الوزراء زارنا كمان من كام شهر وبلغنا اننا مطرودين من رحمة الدولة، بعد أن تفقد أحوال مدابغ مجرى العيون وقرر تجهيز منطقة صحراوية أكثر عشوائية لتكون وجهة بعضنا فى البداية وهو ما اعترضنا عليه».
«خالد» الذى أنهى دراسته الجامعية قبل 25 عاماً، لم ينتظر كأى شاب حاصل على ليسانس الآداب الوظيفة الميرى، لم يجد حضناً سوى مهنة والده تحتويه من الانتظار الخائب، لم يعجبه القرار العنصرى حسب وصفه، لأسباب منها «بدأت فى المدابغ من أيام ماكنت باخد يومية 25 قرشاً»، ولد فيها وعاش وتربى، وكان عليه أن يرد الجميل «بلغت الحكومة فى مذكرة وقع عليها أصحاب المدابغ، موافقتنا على النقل، لكن بشروط، أهمها أن ننتقل جميعاً فى مرحلة واحدة، مع ضمان حقوق العمال والتزاماتهم» ليفاجئهم رئيس حى مصر القديمة، ورئيس الغرفة التجارية بقرار إزالة ظنوا بالخطأ أنه مثل كل مرة لن ينفذ «بلغونا خلال الأيام دى هنزيل المحلات والمدابغ، ومحدش إدانا فرصة».
«حملة الإزالة ستكلف الدولة ملايين الجنيهات، الأولى بها تطوير منطقة المدابغ أو منطقة بدر التى سننتقل إليها» بحسب خالد، الذى أبدى أسفه من القرار العشوائى، الذى سيتسبب بطبيعة الحال فى تشريد مئات الأسر التى تعيش من هذه الصناعة «لجنة الحصر طلبت نقلنا فى المنطقة الجديدة وحددنا طلباتنا فى انتظار الانتهاء من تنظيم المناطق، الدولة بعد 30 يونيو لازم تصدر القرار بتأنّى وفى الوقت المناسب».
فى المنزل نفسه الذى عاش فيه وتربى، نشأ أبناؤه أيضاً، بفضل صنعة لم تخذله يوماً، حتى وإن عاندته الظروف تغلب عليها، المنزل الذى يقيم فى الطابق الأرضى منه مدبغة لتلميع الجلود باتت على شفا إغلاقها من قبل الدولة، يعانى صاحبها حرقة دم وأعصاب يومية، كلما اقترب أحد الغرباء من المدبغة، ظنه موظف يأتيه بقرار الإغلاق، وأمام كل هذا، لا حيلة له سوى الشكوى والصبر والدعاء «أروح فين وآجى منين، ده مكانى وهنا عايش من 30 سنة ببساطة كده أروح صحرا طب أسكن فين؟».
«هو ده تشجيع الصناعة ولاّ ده إهدار للمال العام؟» سؤال لم يكتمه «كامل سعودى» فى صدره، باح به من فرط يأسه، فالصناعة من وجهة نظره تنهار «لما الدولة توقف ترخيص المدابغ وتسعى للهدم، وكل حجتها الانتقال لمنطقة جديدة»، كامل أحد هؤلاء الراضين بشدة عن قرار النقل، لم يبد أى اعتراض يذكر، سوى رغبته الحقيقية فى ظروف أكثر ملاءمة للعمل «إحنا مشاكلنا أزلية فى الصرف الصحى والكهرباء، المرافق تهالكت وعمرها فوق الـ100 سنة، كنا مستحملين علشان ننهض بصناعتنا، والدولة تطالبنا بعوايد وضرائب وضريبة مبيعات وسجل تجارى وأغلى سعر كهرباء فى مصر فى المدابغ» بحسب «كامل» الذى ينفق على الصناعة أحياناً كثيرة أكبر مما يتحصل منها، لا سيما فى ظل هذه الأيام «الصنعة دى لو ماتت البلد كلها هتلبس بلاستيك، الصين متقدمة عننا لأنها بتدعم اللى يلبس ابنه جزمة جلد طبيعى، لكن إحنا بنحارب الجلد الطبيعى، ليه بيهدموا الصنعة؟».
سؤال تردد على لسان الكثيرين منهم، لم يجدوا له إجابة سوى المناشدات، بحسب كامل: ناشدنا رئيس الوزراء اتكلمنا معاه فى زيارته الأخيرة قبل 4 أشهر، طلبنا ننقل مع بعضنا على مراحل إحنا مش بنطالب بأكثر من العدل والمساواة وأن نستأصل جذور الفساد، ليه ننقل على مراحل ما دام يمكن أن ننقل جميعاً حال تجهيز مدينة بدر باللازم، وما وجه الاستفادة من تكسير مبنى ومغادرته دن طائل».
«عمرو معوض» أحد أصحاب المدابغ، اتجه إلى نظرية المؤامرة، مشيراً إلى الأساليب التى ينتهجها الحى ومن ثم الغرفة التجارية والدولة ضدهم «كل مخلفات مصر القديمة الحى بيرميها جنب المدابغ، بغرض مضايقتنا وطردنا بالذوق»، الرجل الأربعينى كغيره من ورثة صناعة الدباغة غير معترض بالمرة على النقل، لكن اعتراضه على عدم جاهزية المكان الذى سيحتويهم «هو فيه حد يعترض على النقل فى منطقة متحضرة.. بس هى فين؟.
غياب البيئة المناسبة لدباغة الجلود أمر يقلق «سيد الضبع»، فالمناخ الذى يفترض أن يحتوى هذه الصناعة، يتناسب بشكل كبير مع طبيعة حى مصر القديمة دون غيره، بحسبه «عايزين ننفذ القرار لكن هنروح فى صحرا، مدينة الروبيكى بعيدة عن كل الأسواق، العامل كمان هيستهلك فترة أطول ومصاريف أكبر علشان يروح يوميا إلى المدينة دى، لأنها تبعد نحو ساعتين عن العمران».
يتحدث «سيد» عن طبيعة الجلود ودباغتها كصنعة لا تحتمل الحرارة المرتفعة «إحنا بنشيلها فى تلاجات بخلاف عملية التمليح والتلميع والتحضير، لأن الجلد شىء طبيعى»، الدراسة التى أجرتها الدولة أغفلت كل هذه النقاط التى من شأنها إضعاف المنتج النهائى، بحسبه «لازم يتم دراسة القرار من ناحية المناخ أيضاً».