«الوطن» على باب الإمام في «الليلة الكبيرة».. «مدد يا حسين مدد» (ملف خاص)
مسجد الإمام الحسين
شارع واسع ذو ريحٍ طيب، ينعطف داخله الآلاف من المريدين يميناً ويساراً، متجهين لهدف ووجهة قصدوها، أغلبهم يرتدون العباءات والعمم، يغلب عليها اللون الأخضر، ولا تفارق المسبحة أياديهم، لا تحيد عيونهم عن هدفهم، ولا تتوقف ألسنتهم عن ذكر الله إلا لتردد: «جايلك يا سيدنا»، وجوههم هائمة ترتسم عليها ابتسامة رضا وشغف تسبق زيارة الحبيب للمحب، تغمرهم لحظات الشوق واللهفة، وبعد السير دون كلل أو ملل يجدون مرادهم، ويصبحون أمام بابه، هنا مسجد الإمام الحسين «حبيب المصريين».
زحام وفرحة خارج المسجد
الأجواء خارج مسجد «الحسين»، المعلم التاريخى الإسلامى، فى منطقة الجمالية، كانت أشبه بصباح يوم عيد، فالمارة سعداء يبتسمون، والعائلات والأسر جاءت من كل فج لزيارة ضريح الإمام، فى الليلة الكبيرة (الختامية) من احتفال المصريين بذكرى قدوم الرأس الشريف إلى المسجد، ويتوافد الجميع من محبى آل البيت إلى المسجد، للتبرك بنفحاته والصلاة داخله، والبائعين أيضاً الذين وجدوا لنفسهم منفعة من الزيارة فوقفوا متراصين، يعرضون بضاعتهم المختلفة، هنا مسبحات وقبعات إسلامية، وهناك عصى ولعب للأطفال الزائرين، وعلى جانبى الطريق مقاهٍ مزخرفة بزخرفة إسلامية، تجذب الناظرين إليها، لتكتمل الصورة الجميلة وكأنها لوحة فنية لرسام مبدع.
«شالله يا سيدنا الحسين»، و«مدد يا سيدنا»، هكذا يردد الزوار على باب مسجد الإمام، يدخلون من أبواب يقف بجانبها أشخاص يوزعون نفحات (مخبوزات - بلح - سندوتشات) على زوار المسجد، على سبيل «النَّدر»، والجميع يأخذ النفحات، حتى من لا يريد الطعام يأخذه على سبيل «جبر الخاطر»، وتبدأ العيون تسترق النظر إلى الداخل، والزوار يخلعون النعال، مرددين البسملة ثم يهمون بالدخول إلى المسجد.
سَكينة داخل المسجد
بمجرد دخول المسجد، تمتلئ الروح بنورانيات ربانية خاصة، وصفاء وسكينة يجعلانك تسمو، وللوهلة الأولى تشعر قدماك الحافيتان على الأرض ببرودة تتسلل إلى جسدك من أطراف الأصابع وحتى شعر رأسك، وبالسؤال يتضح أنها رائحة مسك يعطر المكان ويجعل موطأ سجود المصلين رائحته عطرة، الزائرون فى عالم الحسين متساوون، فلا فرق بين غنى وفقير، فكل فرد جاء مُريداً.
عالم الحسين يملؤه زهد الدنيا وتضرع إلى الله، الجميع جاء ليزور الإمام فى ذكرى طيبة.
فى الصفوف الخلفية، يجلس المتكئون على الحائط، يسبحون الله ويسرحون فى ملكوته، يستمتعون بشكل المسجد من الداخل وسعى المريدين للدخول، تشتم أنوفهم رائحة المسك التى تداعبها وترتاح لها الأجساد، يتقدمهم فى الصفوف الوسطى العائلات، أشخاص جاءوا رفقة محبيهم للاستمتاع باحتفالات الذكرى، وصغار يتساءلون ببراءة: «هو ده العيد؟».
جلس ذلك الرجل المسن الذى أخذ الشيب نصيباً من رأسه، وهو يضم أحفاده من حوله، وابناه يجلسان عن يمينه ويساره، يقفون جنباً إلى جنب لمشاهدة شاشة هاتف الجد المحمول، بعد أن طلب من أحد الزوار بلهجة صعيدية ممزوجة بطيبة أهالى زمان: «والنبى يا غالى تدينى صورة مع العيال».
ويقول الجد بنبرات سعيدة بعزوته لـ«الوطن»: «أنا يا ما زرت سيدنا الحسين عمرى ما جيت القاهرة غير لما أجيله، لكن المرة دى طعمها مختلف، علشان مع أحفادى، همّا مبسوطين لأنهم أول مرة ييجوا هنا وسط الاحتفال ده».
من أمام عائلة الجد، مر رجل بهيئة غريبة، يلف على جبهته شالاً باللون الرمادى، ويرتدى سروالاً قديماً متهالكاً ومعطفاً بحجم أكبر من جسده، لكن الابتسامة لا تفارق وجهه، وهو أمر تعجب له الزوار، إذ كيف لرجل بهذه الحال أن يكون سعيداً، وبالاقتراب منه يظهر ما تحمله كتفاه وهو عبارة عن حقيبتين توضعان عكس بعضهما، الأولى مليئة بنفحات سيدنا الحسين، والثانية «قربة مياه» من جلد الماعز، بنفس تلك الطريقة القديمة للسقايين، للحفاظ على درجة حرارة المياه وحمايتها من التلوث، يضع «القربة» على كتفيه، ويضم مصبها بإصبعيه، ويفتحهما موجهاً فوهة مصب المياه إلى كوب من المعدن، يصب فيه المياه ويسقيها للزائرين مجاناً، ومحبة فى سيدنا الحسين.
بخيت على حسن، صاحب الـ71 عاماً، يسير بـ«قربة المياه» بين الصفوف يسقى منها المصلين، مردداً: «اشرب واذكر الله»، ويروى لـ«الوطن» سبب مجيئه إلى المسجد قائلاً: «أنا محدش قال لى آجى، لكن جيت من نفسى، سيدنا الحسين نادانى، وحب آل البيت فى دمى، جيت فى ذكرى المولد علشان أسقى الناس، وأروى عطش الغلابة اللى زيى، لأجل ما ربنا يرضى عنى، وأنا غلبان على الله، لكن هو اللى مدّينى القوة، ألفّ بقى وأسعى فى خدمة المساجد، ولا أنام فى بيتى وسريرى من المرض؟».
خلف أعمدة المسجد، هناك من خلدوا للنوم ووجدوا راحتهم داخله، واحتموا بنفحات الرضا فيه، ولا أحد يزعجهم أو يقلق نومهم، حيث يرتاح قلق القلب وتزول منغصات العقل، ولا يبقى سوى الراحة فقط.
الصفوف الأولى حجزها المريدون الذين حضروا لزيارة مقام الحسين، يتزاحمون للدخول، فهى ذكرى قدوم الرأس الشريف هنا، ويرون أنه لا يوجد أفضل من هذا اليوم للزيارة، يسارعون للدخول ويرددون: «يا شريف يا حبيب سيدنا النبى»، يدخلون فى ممر حدده منظمو المسجد ثم يدخلون واحداً تلو الآخر، لا أحد يُحرم من الزيارة، فالجميع يدخل بعدد محدد ليتمكنوا من القيام بما جاءوا من أجله، زيارة الحبيب سيدنا الحسين.
زغاريد النساء
أصوات السيدات داخل المقام قادمة من الجهة المقابلة، وتعلو أصواتهن تارة بالبكاء: «يا حبيبى يا حسين»، وتارة بالزغاريد، فلا أحد يعلم ما بالنفوس سوى خالقها.
تجلس «أم إبراهيم» فى ركن بعيد وحدها، تنظر من بعيد للمقام وتبتسم، وتقول لـ«الوطن»: «عمرى ما جيت هنا فى المولد إلا وروّحت مرتاحة، وربنا بعدها ينوّلنى كل اللى فى بالى، ربنا كبير وسامعنا من المكان الطاهر ده».
بينما حضرت صفاء من أجل توزيع البركة والـ«القُرَص المخبوزة»، بعد أن حقق لها الله مرادها وحملت ابنتها، عقب دعائها الله هنا قبل شهر واحد، وكانت الزغاريد تعبيراً عن فرحتها باستجابة دعواتها.
بعد أن يرمى زوار المسجد حمولهم التى تُثقل قلوبهم، ويؤمِّنوا الإمام على دعواتهم لله، يخرجون كأنهم وُلدوا من جديد، علامات الراحة تعلو جباههم وأعينهم تملؤها السعادة، فيصلون جماعةً، ثم يقصد أغلبهم «باب الفرج»، ليخرجوا منه قاصدين فرجاً من الله، ليُكملوا احتفالهم بـ«مولد الحسين» فى محيط المسجد.
الصمت بالداخل احتراماً لصاحب المقام
بدخول المقام، يحل الصمت احتراماً لما بداخله. تتسع حدقات العيون، وتهفو قلوب الزائرين، ها هى اللحظة المنتظرة: «أنت الآن فى حضرة الإمام». يقطع الصمت صوت أحد زوار المقام الذى ذهب مسرعاً يتخطى الصفوف ليلمس جدار المقام قائلاً: «جيتلك يا أبا زين العابدين.. مدد مدد مدد».
خطوة تلو الأخرى تقرّب الزائرين من المقام، فيترك أحدهم الصف الأول لغيره، وعلى باب المقام يظهر ما بداخل كل مُريد، منهم من يقبل الجدار ومنهم من يدعو دعوات ممزوجة بالصدق ومغسولة بدموع أصحابها.
فهذا الشاب الصعيدى يسند رأسه على الجدار الذهبى ويده اليمنى تتعلق به، مردداً جملة واحدة: «يا رب.. أمى يا رب.. وحياة حبيبك الحسين أمى يا رب»، وبجواره صعيدى آخر بذقن خفيف وهيئة بسيطة، جاء يسعى حاملاً ولده على كتفيه، ويطلب منه لمس المقام قائلاً: «حط إيدك يا واد المس مقام سيدنا الحسين وخد البركة»، فيبتسم الصغير ببراءة ويتحسس المقام.
وفجأة يقطع الصفوف رجل بجلباب فخم تظهر عليه هيبة الكبار، يقول: «والنبى عدُّونى أروح له.. عدُّونى عايز أقول حاجة وأمشى»، فيفسح له الحاضرون الطريق وفور اقترابه من جدار المقام ظل ينظر داخله ويردد «الله.. الله»، ويبكى وتذرف عيناه الدموع وهما لا تفارقان المقام.