حرافيش نجيب محفوظ.. أرواح تطوف بـ"الفيشاوي" و"قشتمر" و"ريش"
ليالي لها سحر وبريق تحمل تفاصيل شديدة الخصوصية، الباب الأخضر، وعبق البخور، وأضرحة أولياء الله الصالحين، والدراويش وحلقات الذكر، أزقة وممرات ضيقة تصل بك إلى عقود قديمة في عالم سحري، مقاهي تحمل بين طايتها التاريخ، يتلاشى الهدوء في رحابها وتتغير معالم وتظهر أخرى، وتظل ملامح الحي الشرقي الأصيل ثابتة، ذلك الحي الذي طالما احتوى نجيب محفوظ و"شلة الحرافيش"، ومن يذهب لتلك المقاهي، خاصة في لياليها الصيفية، لن يفوته رؤية بعض من بقايا "الحرافيش".
على مقاهي مصر العتيقة، كانوا يجتمعون دائمًا، مجموعة من الشباب الطموحين في بداية الأربعينات، جمعتهم الأحلام المشتركة، الشلة المكونة من الأديب العالمي نجيب محفوظ، والفنان أحمد مظهر، والسينمائي توفيق صالح، وعادل كامل، والأديب عادل عفيفي، وبهجت عثمان وصبري شبانة ابن عم الفنان عبدالحليم حافظ، والإذاعي إيهاب الأزهري، ودخل وخرج من "الحرافيش" من أسماهم محفوظ "الأعضاء غير الدائمين" مثل صلاح جاهين، ومصطفى محمود، ولويس عوض، وأحمد بهاء الدين، وثروت أباظة.
"كانت أول قهوه نجلس بها (قشتمر)، ثم (إيزيس) ثم انتقالنا لـ(عرابي)، ولم نبدء بالأخيرة لأنها كانت قهوة الأغنياء يجلس بها بشاوات العباسية، وكنا نتهيبها.. في رحلتنا للحسين كنا نجلس أما في (زقاق المدق) أو (الفيشاوي)، وعندما عرفت الأخيرة أحببتها جدا"، بصوت هادئ تكلم محفوظ عن المقاهي التي يتردد عليها مع "حرافيشه".
وانتقل مكان تجمع "الحرافيش" في الستينيات إلى مقهى "ريش" لتصنع تاريخًا أدبيًا لهذا المقهى بعد ذلك، ثم اعتادوا على الالتقاء كل يوم خميس، في بيت الأديب الساخر محمد عفيفي في حي الهرم، لكن بعد وفاته أصبحت الشلة تتجمع في بيت عادل كامل.
"الحرافيش"، كلمة أطلقها الفنان أحمد مظهر مازحًا، خلال سهراتهم الأسبوعية المنتظمة في منتصف الأربعينات، على الشلة التي كان يسمي تجمعها وقتها بـ"اجتماع الدائرة المشؤمة" نظرًا للوضع السياسي الذي كانت تمر به مصر في ذلك الوقت، ففي أثناء اجتماعهم لمناقشة كتاب رفاعه الطهطاوي "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، وجدوا في كلام الطهطاوي أن هناك مقاهي في باريس مخصصة لعلية القوم وأخرى للحرافيش ، فضحكوا وقال لهم أحمد مظهر "أهو انتو بقى الحرافيش".
ما بين صورة قديمة بالأبيض والأسود تحوي وجوه شابة تنظر للحياة، وأخرى بالألوان التقطت بعد مرور ما يقرب من نصف قرن من الأولى، غياب بعض وجوه "شلة الحرافيش" وظلت الابتسامات نفسها تحكي بصمت عن أقوى العلاقات في عالم الأدب والسينما.. وبين الأولى والثانية تكمن الرحلة، التي كتب سطور النهاية بها وفاة آخر أعضائها السينمائي توفيق صالح، لتتحول "شلة الحرافيش" لمجرد ذكرى تطوف أروحهم حول مقاهي "الفيشاوي" و"ريش" و"قشتمر".