نواجه الإرهاب بالقوة، ونقدم فى مواجهته والتصدى له الغالى والنفيس.. ويتصدر -طبعاً- جدول أعمال الشعب المصرى الذى يحتشد خلف قيادته وأجهزته فى ذلك..
ونواجه الفساد بكل قوة.. نمنح الأجهزة المختصة كل الصلاحيات الممكنة، لتتابع وتراقب وتطارد وتمنع وتحبط وتحيل الأمر إلى جهات التحقيق.. ومع الصلاحيات الكاملة كان ضرورياً ومنطقياً أن تتعدّل التشريعات، لتتمكن الأجهزة المعنية من دورها الذى حجمته التشريعات القديمة، خصوصاً فى ظل فساد طال واستطال وتحول عبر سنوات إلى «سيستم» يسيطر على جميع صور التعامل بين الناس، وصار أصلاً، وليس استثناءً، ويحتاج لذلك كل طاقة المواجهة الشاملة الكاملة، وقد كان، وتتساقط كل يوم قلاع وحصون كانت تحمى وتخفى ومعها فاسدون وُلدوا وكبروا وفسدوا وأفسدوا، ولم يستوعبوا ما جرى من تغيير، فطالتهم يد العدالة التى أمامها جهود طويلة وعليها آمال كبيرة!
ثالث معارك شعبنا التى علينا أن نعترف بأننا لم نحقق فيها كل النتائج المرجوة والمطلوبة والمستهدفة هى معركة السيطرة على الانفجار السكانى الذى لا يخفى على أحد مدى خطورته فى التهام نتائج أى تقدم اقتصادى يحدث فى البلد، ويبقى شعبنا فى معاناته الدائمة لا ينطلق إلى آفاق أخرى من المعيشة التى يأملها ونأملها ويستحقها.. وهو مع الخطرين السابقين -الإرهاب والفساد- يحتاج إلى مواجهة أكثر حسماً تستبعد كل أسباب استمرار المشكلة.
لا يمكن أن ننتظر نتائج مختلفة مع ثبات المقدمات السابقة.. يكفى أن نعرف أن مصطلح «الانفجار السكانى» انطلق فى السبعينات، وكان موضوعاً لاختبارات التعبير فى المرحلة الابتدائية، ثم فى الإعدادية والثانوية فى الثمانينات، وتحول مع الزمن إلى موضوع أبدى للتعبير لا يتغير ولا يتحرك إلى ما بعده.. حيث لا بعده!
ولسنا ممن اعتادوا إلقاء أى تعثّر اقتصادى على الزيادة السكانية.. إذ إنها مشكلة من مشكلات المجتمع يجب التخلص منها وهزيمتها وليس التحجج بها كما فعلت حكومات الأربعين سنة السابقة على 2014، إذ إن من مهام الحكومات.. أى حكومات.. تخليص المجتمع مما يواجهه من مشكلات.
ومن 2014، واجهنا مع الإرهاب والفساد مشكلات مزمنة أخرى ستنتهى قريباً وستصبح تاريخاً نحكيه ونحكى عنه.. العشوائيات فى صدارة الملفات الصعبة والمزمنة والمحزنة والمؤلمة والنجاح فى مواجهتها -مع أمراض مزمنة والطرق الخطرة وغيرها- يفتح الشهية الوطنية للتطلع إلى مزيد من التصدى لأزمات ومشكلات أخرى.. ولا يمكن بأى حال استمرار «الزيادة السكانية» على النحو التى هى عليه!
المختصون المعنيون بالأمر درسوا تجارب عديدة للتصدى للمشكلة فى بلدان أخرى.. وتجربة تونس الشقيقة التى انطلقت فى أوائل السبعينات واستمرت وحقّقت نتائج جيّدة إلى أن تكفل الفساد ثم الإرهاب بحرمان أهلنا هناك من ثمرة النجاح فى المشكلة السكانية! ودرسوا تجربة الصين التى قررت وبشكل إلزامى ألا تنجب الأسرة الواحدة طفلين، ليبدأ السكان عداً عكسياً إلى التراجع، وبالتالى تقليل عدد سكان الصين الكبير، ثم إلى طفل واحد للإسراع بالمهمة المطلوبة، وحقّقت الصين بالفعل نتائج مبهرة أسهمت مع التخطيط الشامل وقوة الدولة المركزية وأيضا الحرب على الفساد فى التقدم الذى جرى هناك.. لكن بدأت مشكلات لهذه القرارات الخاصة بالنسل تظهر على السطح أخطرها شيخوخة فى المجتمع تضرب حيويته، وهى أهم ما فيه، فبدأت الدولة التراجع للخلف بالسماح بطفلين مرة أخرى!
ودرس المسئولون فى وزارة الصحة تجربة بنجلاديش التى اهتمت بتوفير عمل لربة الأسرة وتوفير الرعاية الحكومية للأطفال إلى حين عودة الأم من العمل.. أسهمت الخطة فى تطلع المرأة هناك إلى مزيد من النجاح فى الحياة العملية، وبالتالى عدم الانشغال بمزيد من الأطفال، وبالتالى تحقيق الهدف!
احتمالات ثلاثة يعيها خبراء الإسكان والمسئولون عن الملف فى وزارة الصحة أولها وأصعبها وأخطرها أن يصل معدل الإنجاب الكلى إلى 3.5 طفل لكل سيدة، وبهذا الاحتمال يصل عدد سكان مصر عام 2050 إلى نحو 183 مليون نسمة، وتكون نسبة السكان فى قوة العمل من سن 15 إلى 65 عاماً نحو 60%. أما الاحتمال الثانى فهو ثبات معدل الزيادة عند الرقم الحالى وهو 3.07 طفل لكل سيدة، ليصل عدد السكان عام 2050 إلى 160 مليوناً، وقوة العمل نحو 64% والاحتمال الأخير هو نجاح الخطة القومية والهبوط بنسبة الإنجاب إلى 2.4 طفل لكل امرأة، وعندئذ يصل عدد السكان فى السنة المحدّدة 2050 إلى نحو 152 مليوناً، مما يعنى النجاح فى التخلص من عبء يصل إلى 30 مليون نسمة، وليس تراجعاً إلى الخلف بالرقم الحالى ولا حتى التراجع فى نسبة -أقول نسبة- الزيادة تراجعاً يسمح بسقوط ثمار أى تقدّم اقتصادى على المصريين، وبالتالى معاناة أقل، وليست انطلاقة كبرى ومعها مخاطر كل الأزمات الأخرى من نسبة الفرد من مياه الشرب إلى نسبته من الأرض الزراعية، إلى نسبته من المساحات الخضراء، إلى نسبته المسموح بها من تلوث الهواء والبيئة، إلى حق أبنائه فى التعليم إلخ إلخ!!
فى مصر، لا ولن يقبل المجتمع -الدولة والشعب- ما لجأت إليه دول أخرى فى تجاربها لمواجهة المشكلة، وبعضها عقم سيداته لمنع الإنجاب عنوة، ولا ولن يقبل مجتمعنا معاقبة من يخالف توجّهات الدولة ونصائحها، ويُنجب بما يتجاوز قدرته وظروفه، وهنا نسأل: وما الحل؟ هل تقديم حوافز لمن يلتزم بطفلين أو طفل تسهم فى معيشة أفضل وتشجع الآخرين على السلوك ذاته؟! وهل يمكن للحوافز هزيمة المعتقدات والموروثات، ومنها الفهم الخاطئ للدين، ومنها الاعتقاد بأن كثرة الأبناء تقلل مخاطر الطلاق، خصوصاً فى الريف المصرى كله فى الصعيد والدلتا على السواء، ومنها الاعتقاد أيضاً بأن الانجاب عزوة وسند لرب الأسرة عند الكبر وقوة عاملة داخل الأسرة لا يمكن وقفها بسبب أى حوافز؟! وهل يمكن أن تنجح الدولة من خلال الحوافز فى تحقيق الأهداف المطلوبة فى ظل توجه مناوئ ومخالف للمجتمع وأهدافه يروج للاتجاه المخالف والمعاكس تماماً؟! بمعنى هل سيلتزم الناس بنصائح الإعلاميين المصريين -إن وجدت- أم بفتاوى شيخ المسجد وإمام القرية والمعلم الأزهرى؟ لمن التأثير الطاغى؟ ولمن الغلبة؟
مثال بسيط يمكن أن نذكره للتدليل على حاجتنا إلى أن تتكامل الجهود وتأخذ بعض الجهات والمؤسسات الأمر بجدية.. روى لنا المبدع الكبير المخرج المحترم محمد فاضل -مع حفظ الألقاب- كيف أن أحد أعماله المهمة كتبه شريكه فى الروائع الدرامية التليفزيونية أسامة أنور عكاشة، وهو مسلسل «وما زال النيل يجرى»، حيث يؤكد أن المسلسل ومنذ إنتاجه عام 1992 وعلى مدار ما يقرب من ثلاثين عاماً أذيع ثلاث مرات فقط، رغم أنه مقدّم بالكامل لمعالجة المشكلة السكانية!!!!
عتاب مخرجنا الكبير مشروع.. وهو عتاب موضوعى وليس شخصياً، فالأعمال الأخرى له تُذاع وتُعاد كثيراً، لكن المثير أن كل الأعمال -له ولغيره- تُعاد كثيراً على عديد القنوات وأحياناً بإلحاح كبير.. إلا العمل أو الأعمال التى تواجه مشكلات مصر المزمنة من الإرهاب إلى النسل..!!! لا مسلسل العائلة يُعاد كثيراً، ولا المسلسل المذكور..!!!
الأمر يحتاج إلى خطة دولة.. بمعنى أنها ليست قضية وزارة الصحة وحدها.. إنما قضية الجميع.. وزارات وهيئات بعقل مركزى.. يخطط ويدير!