بنت وولد
ولد.. يجلس على حافة النهر، يصفر بصوت منخفض، يعلو تدريجيًّا مع تغيبه عن الواقع، يسرح لوقت طويل، ثم يفيق على أصوات لمركب صياد ينشر شبكته في النهر بعد أن يتمتم ببعض الآيات.. يتأمله كثيرًا ويبتسم، يتابعه بلهفة حتى يبتعد، يتخيل السمك الذي سيكون طازجًا، إلا أنه يعود ليسرح في فتاته، ويحب دائمًا التذكر من البداية.. عندما التقيا..
بنت.. تسرع دون أن تحاول لفت الأنظار، مرددة كلمات والدتها التي أمرتها بتبليغها لخالتها لكي لا تنساها، ثم تفاجأ بذلك الفتى الذي يظهر -أمامها مباشرة- دون سابق إنذار، وكأنه يقصد إخافتها، تقاوم خروج صرخة مكتومة، تفقد أعصابها للحظة، تصفحه على خده، لكنها تفاجأ بأن يدها كانت رقيقة عليه، ثم تنهار أعصابها بسبب سرعة كل ما حدث، وتدمع...
ولد.. يخرج من بيته على حافة أقدامه عندما اطمأن أن أباه قد غرق في النوم، يتسلل في الظلام معتمدًا على ذاكرة جسده، وقلبه الذي يقوده مباشرة إلى بيت البنت التي يحلم بها ليل نهار..
يسمع والدتها تخبرها بأن تبلغ خالتها رسالة ما، يرقص قلبه فرحًا، يعلم أين تسكن خالتها، يخطط لأن يسبقها إلى منتصف الطريق، ويوقفها ويخبرها بمشاعره..
بنت.. تحاول أن تجمع قواها، إلا أنها لم تكتسب بعد التجارب التي تجعلها مدركة لما ينبغي عليها فعله في مثل هذا الموقف، فهي لم تبلغ عامها العشرين بعد.
ولد.. يفاجأ بجسده الذي تجمد مكانه عندما رآها من بعيد، واللحظة الوحيدة التي ستجمعهما معا دون أن يراهما الناس، ويستطيع أن يخبرها بما يجول في نفسه من مشاعر تجاهها ستذهب بعيدًا مصطحبة أمله في محادثتها ولو لمرة واحدة، حاول أن يجمع أنفاسه، يخبر نفسه بأنه شجاع وأنه يحبها وسوف يقول لها ذلك ولن تحدث مشكلة فحتى لو رفضت أو حتى صرخت فلن يراه أحد ويعنفه أو يخبر أباه، تقترب منه يجد جسده يتحرك وحده، يقف أمامها، ويفاجأ بلسعة على خده دون أن يفهم ما حدث، فيدمع..
بنت.. بعد لحظات تنظر إليه، تعرفه، وتدرك أنه أخيرًا جمع شجاعته وقرر أن يكلمها، إلا أنها ارتعبت من تلك اللحظة التي تخيلتها وتمنتها كثيرًا، ولم تدرك أنها ستكون مرعوبة هكذا عندما يكون الحدث الذي عاشته كثيرًا في خيالها يصبح حقيقة، وكادت أن تذهب وتتركه في ذهوله، إلا أنها تلمح في انعكاس بعض الأضواء دموعه..
ولد.. يدرك بطبيعته الرجولية أنه في موقف لا يحسد عليه عندما أحس دموعه على خده، إلا أنه لم يبال بذلك كثيرًا، فقد لمح في انعكاس بعض الأضواء دموعها، فلم ينطق، فجأة تذكرت الرسالة ولم تتذكر فحواها جيدًا، بدأت تقلق وتتوتر، وهو لا ينطق، وهمت بالذهاب.
.
- أحبك...
بنت.. تطلق ضحكة مرتبكة متفاجئة، يحمر وجهها، لا تدرك المعنى الحقيقي لهذه الكلمة إلا أنها أحستها، يرتعش جسدها، يتحرك شيء ما داخل معدتها، تتآكل شفتاها، يتحسس الهواء رئتيها، يلمس ما ظهر من جسدها، ويصيبها بالارتعاش، تنطلق مسرعة تبتعد عنه.
ولد.. يتذكر كل هذا وهو يبتسم ابتسامة واسعة، يتذكر خروج الكلمة من فيه بصعوبة بالغة، عدم فهمه لها قبل ذلك، إلا أنه كان يدرك جيدًا أنها الكلمة المناسبة لهذا الموقف وهذه المشاعر، ولم يتأكد حتى شعر بما شعره بجرد انتهائه من لفظها، رأسه الذي شمل دوائر الكون وكاد يسقط من ثقله، عيناه التي شعر أنهما انقلبتا، صدره الذي كاد ينفجر بالهواء الذي دخله، التقاطه لأنفاسه بصعوبة، شعوره بأنه لم يرغب في الموت أبدًا، إلا انه لم يخف منه أو يخشاه...
بنت وولد.. يهرولان مبتعدين عن المكان بكل ما أوتيا من قوة، ورغم عدم وجود أحد يطاردهما، إلا أنهما لم يخففا من سرعتهما، ربما لشعورهما بالخوف، والحماس، والمزيج العجيب بين الرهبة والرغبة في الخلاص، يقفا فجأة دون سابق إنذار، فقد حققا ما كانا يحلمان به وهو الهروب، وأحسا بإحساس غريب في الاكتفاء بهذا القدر، وجلسا مكانهما، وانتظرا من يبحث عنهما.